عادي

تمثيل بصري للعزلة

23:16 مساء
قراءة 7 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

عاش ألبير قصيري أكثر من ستين عاماً في غرفة واحدة لم يغيّرها أبداً في فندق لويزيان القديم، وكانت غرفته تقع في الطابق الخامس من الفندق المبني على طراز معماري فرنسي كلاسيكي من الحجارة الضخمة كما وصفه الروائي العراقي شاكر نوري الذي أجرى حواراً مع قصيري «1913-2008» وكتب في مقدمة الحوار كأن قصيري هو المالك الوحيد لهذا الفندق «.. توالى المالكون والندل والخدم والموظفون وهو باقٍ في غرفته في الطابق الخامس.. حتى إن البعض أطلق عليه ملك لويزيان..»، فيقول قصيري كما جاء في الحوار «..إن حياة الفندق مثالية بالنسبة لي لأنك كما تفهم، ليس بإمكاني أن أكون لطيفاً طيلة أربع وعشرين ساعة متواصلة.. وأن أضغط على نفسي من أجل تحمّل الآخر.».

لكي يعيش قصيري في عزلة، اختار الإقامة 60 عاماً في غرفة واحدة «.. على الأقل أنا لا أؤذي أحداً..» يقول لشاكر نوري

.. فهل تُحيل «الغرفة».. هكذا بكل ما تنطوي عليه من واقعية مباشرة وتجريد.. هل تحيل إلى العزلة..؟

إن بيتاً مؤلفاً من غرفة واحدة لهو تمثيل بصري تشكيلي مباشر للعزلة. فقط أربعة جدران وسقف في الهواء. غرفة لا حولها سور ولا يحيط بها سياج؛ إذ ينتفي تماماً التمثيل البصري التشكيلي للغرفة الواحدة هذه، حين تكون حولها مجموعة من الغرف. ولأن البيت هو أكثر من غرفة، فإنه نقيض العزلة، إن أكثر من غرفة يعني أكثر من ساكن أو أكثر من كائن بشري في هذا الحيز «الغرفي» ذي الجدران المتجاورة؛ بل المتلاصقة.

رموز

يستبعد «البيت» فكرة «العزلة» أو فكرة «العزل»، فما من كائن معزول سواء أكان سجيناً أم مريضاً مرضاً وبائياً إلا ويتم وضعه في «غرفة» عزل انفرادي.. في غرفة وليس في بيت بغرف عديدة يسمح به بالتجوال والتنقل من حجرة إلى حجرة أو من غرفة إلى غرفة وسط مجموعة من الساكنين تنفي هي بدورها فكرة «العزلة».

الغرفة الواحدة أو الحجرة الواحدة ترمز أيضاً إلى «الوحدة» ترمز إلى الانفرادية القصوى.. وليس «الفردية»؛ ذلك أن الفردية تحيل إلى الذاتية أو النرجسية أو الاستحواذية، في حين يحيل «الانفراد» إلى العزل إلى «الوحدة» أو «الإبعاد» أو «الحجز» غير أن كل هذه الإحالات يمكن أيضاً تكثيفها في إحالة أخرى هي «الخوف».

تنقلب حياة «جوناثان نويل» ويعمل حارساً في مصرف في شارع دو سيفر إلى جحيم حين رأى حمامة عند باب غرفته، الغرفة الصغيرة في الطابق السادس من عمارة في شارع دو لا بلانش. ولا أدري إن كان ذلك تطيراً أم مرضاً نفسياً أم حساسية بشرية مرضية تجاه الطيور.. المهم أن الغرفة نفسها، غرفة جوناثان تصبح مكاناً مكثفاً للخوف؛ وذلك في رواية «الحمامة» للكاتب الألماني باتريك زوسكيند الذي يقول:

المسكين حين وجد وظيفة حارس في بنك، سارع باستئجار تلك الغرفة التي تقبع الحمامة الآن على بابها.. «اشترى سريراً جديداً، ركب خزانة، غطى الأرضية ببساط رمادي، ألصق على ركن الطبخ والجلي ورق جدران جميلاً أحمر لماعاً.. أصبح ضمن أملاكه في الغرفة مذياع، جهاز تلفزيون، ومكواة».. لكن كل ذلك ذاب أو تلاشى في لحظة واحدة. إنه خائف حتى الموت من هذه الحمامة وهو هنا في هذه الغرفة التي تحولت إلى لعنة، فماذا يفعل جوناثان؟، راح واستأجر غرفة في فندق. في حين كانت غرفته التي أحبّها.. «.. يمكن تشبيهها بحيوان صدفي نما نحو الداخل تضخم فيه اللؤلؤ، وصارت، أي الغرفة، غرفة جوناثان قبل الحمامة، تشبه بتجهيزها العالي قمرة سفينة أو حجرة نوم فارهة، أكثر مما تشبه غرفة الإيجاز الصغيرة..».

لقد احتفظت غرفة جوناثان نويل خلال ثلاثين عاماً بسمتها الجوهرية «.. فقد كانت وظلت غرفته الجزيرة الآمنة في العالم المضطرب، ظلت حصنه المنيع، ملجأ له، حبيبته. نعم حبيبته، فقد كانت صومعته الصغيرة تحيط به رقيقة إذا عاد مساء إلى البيت، تدفئه وتحميه، تغذيه روحاً وجسداً، ترعاه إذا احتاج إليها ولم تهجره قط. كانت الوحيدة في حياته، التي برهن على إمكان الاعتماد عليها. ولهذا لم يفكر لحظة واحدة أن ينفصل عنها، ولم يكن يفكر في الانفصال عنها في يومه ذاك أيضاً، حين تجاوز الخمسين، ويعاني أحياناً ارتقاء الدرجات الكثيرة إليها، وحيث يمكنه راتبه من استئجار شقة حقيقية، بمطبخ ومرحاض وحمام.

بقي جوناثان وفياً لحبيبته حتى إنه نوى أن يشد عرى العلاقة بينهما أكثر فأكثر، نوى الارتباط بها إلى الأبد بأن يشتريها، وأبرم العقد مع مدام لاسال، مالكة العمارة، واتفقا على 55 ألف فرنك جديد، دفع منها 47 ألفاً على أن يدفع الثمانية آلاف المتبقية نهاية العام. وبهذا ستصبح أخيراً ملكه، ولن يفصل بينهما أي شيء في العالم، هو جوثانان وغرفته الحبيبة، حتى يفرق بينهما الموت، هكذا كانت الأحوال عندما ألمت به في أغسطس/ آب 1984، صبيحة يوم جمعة، فجيعة الحمامة.

تحولت الغرفة عند جوناثان نويل إلى كائن بشري حي. لقد تأنسنت غرفته، ففكر في شرائها من مالكتها، لكنها الآن غرفة خوف، أو غرفة الخوف، وهكذا، سيستأجر غرفة أخرى في فندق، ولكن الغرفة الحبيبة الإنسية لن تكون أبداً مثل غرفة الفندق. غرفة الفندق «المستباحة» التي يمر عليها كل من هب ودب يستأجر غرفة في فندق غرفة مبتذلة بسريرها وشراشفه ووسائده. غرفة فندقية ربما يمر عليها في الأسبوع سبعة نزلاء. غرفة فندقية مرة أخرى غير مأسوف عليها، والنزيل الذي يغادر غرفة فندق قد لا يحمل أي ذكريات طيبة حول إقامته المحددة في بضع ليال أو أيام. لا حنين إلى غرفة من هذا النوع، تماماً مثل السجين الذي يغادر غرفة الاعتقال أو الحجز أو السجن الانفرادي.

مراوحة

نعم. الغرفة بوصفها زنزانة.. وبين صورة الغرفة، وصورة الزنزانة يراوح وصف أنطونيو غرامشي للصورتين في رسالة كتبها لزوجته «تانيا» وهو في السجن، «من كتاب شجرة القنفذ» ترجمة: أمارجي،: «عزيزتي تانيا، منذ بضعة أيام غيرت زنزانتي وجناحي «السجن مقسم إلى أجنحة» كنت من قبل نزيل الجناح الأول، الزنزانة رقم 13، والآن أصبحت في الجناح الثاني، الزنزانة رقم 22.

حياتي تمضي، كما من قبل، من أعلى إلى أسفل، أريد أن أصفها لك بشيء من التفصيل، وهكذا يكون في مقدورك كل يوم أن تتصوري ما أفعله».

تنوع

أسوأ من غرفة الفندق، أو لنقل أسوأ من غرفة الخوف «غرفة جوناثان» لنقم بالإشارة إلى مجموعة من الغرف السيئة السمعة:.. مثل غرفة الإعدام بالغاز؛ حيث يساق المحكوم عليه بالموت بهذه الطريقة إلى حيّز من الغاز غير مرئي، وربما ليس للغاز رائحة، لكنه محدد تماماً في حجم هذه الغرفة التي سوف يجري فيها الإعدام، بهدوء، وشفافية، مثل شفافية النوم.

من الغرف سيئة السمعة أيضاً غرف المؤامرات التي تحاك عادة في الليل، وبعض المؤامرات تشارك فيها نساء يفضلن عقد هذه اللقاءات المجرمة – الليلية في غرف النوم.

غرفة النوم، عادة، لا تحيل إلى ما هو جرامي، أو دموي، أو تآمري. فهو أكثر غرف البيت حميمية وملاذاً آمناً إلى روحانية وجدانية إنسانية متبادلة. إن غرفة النوم هي غرفة الحلم أو غرفة صناعة الحلم..

ذكريات

إن الغرفة هي مجموعة فضاءات:.. فضاءات الأثاث، فضاء الستارات، فضاء الهواء أو التهوية، فضاء التدفئة أو التبريد، فضاء النوافذ، فضاء الرائحة، فضاء اللوحات المعلقة على الجدران، وفي كل الأحوال فإن ساكن الغرفة هو من يحدد هذه الفضاءات كلها.. إن له مزاجه الشخصي، الفكري، الجمالي في تدوير غرفته وفق رؤيته البصرية، والفنية أو الإبداعية.

في مذكراته «أشهد أنني قد عشت» ترجمة د. محمود صبح يروي بابلو نيرودا أنه حين جرى تعيينه سفيراً لبلاده تشيلي في باريس كان أول شيء بالنسبة إليه ولزوجته «ماتيلده» قرفهما من غرفة النوم التي كانت مختصة في مقر إقامة السفراء.. يقول: «كان أصعب شيء هو جعل الهواء يدخل. لقد تسرب الأسلوب الصالوني الخانق إلى خياشيمي وعيني حين وصلت وماتيلده في تلك الليلة من مارس/ آذار عام 1971 إلى غرفة النوم، واضطجعنا على الفراش الفاخر؛ حيث مات بعض السفراء وبعض السفيرات في هدوء أو في فزع.

إنها غرفة نوم صالحة لإيواء فارس وفرسه، ثمة سعة كافية لكي يتغذى الفرس وينام الفارس، إن السقف عال جداً ومزين بشكل ناعم. أما الأثاث فهو عبارة عن أشياء مخملية ذات لون غامق مثل لون ورقة جافة، مزخرفة بهدابات مرعبة، ينم هذا الأثاث عن ثروة وانحطاط في الوقت نفسه، ربما أن الزرابي قبل ستين سنة كانت جميلة، لكنها الآن اتخذت لوناً لا يقهر من حف ودعس، ورائحة عث كرائحة أحاديث مجاملة ميتة».

جماليات

إن من أجمل الغرف في العالم أو في الحضارات هي غرفة الشاي عند اليابانيين، وفي كتاب «الشاي» ل كريستوف بيترز/ ترجمة الدكتورة سمر منير يتحدث المؤلف عن واحد من المعلمين الكبار في الطقوس التي تسمى في الثقافة اليابانية «السادو» وهو المعلم «تاكينو جو» ويقول بيترز: إن الرجل كان سليل عائلة ثرية تعمل في التجارة، لكنه انجذب مبكراً إلى فن الشعر، وتبع مذهب «الزن»، غير أنه، واصل تطوير ثقافة الشاي، لم يكتفِ بغرفة واحدة لهذا المشروب الطقوسي الياباني؛ بل بنى كوخاً خصيصاً للشاي، وشق حديقة حول الكوخ.

على مسافة بعيدة من طقوسية غرف الشاي الشرقية أو اليابانية، يقوم البرتغالي فرناندو بيسوا بالتنزه في غرفته.. يقول في كتابه «حوارات حول الطغيان»، ترجمة: اسكندر حبش: «إن ذاك الذي يتنزه طيلة اليوم في غرفته البالغ طولها خمسة أو ستة أمتار ينتهي به الأمر بأن يقطع كيلومترات عدة، بيد أن المشكلة تكمن في أننا لا نقوم بأية خطوة خارج أجسادنا نحن، كما أننا لا نسير أبداً خارج مشيتنا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bddbu3ss

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"