عادي
تنطق برقة كاتبها وشغفه بالحياة

مراسلات كامو وكازاراس.. علاقة من البلور الخالص

23:56 مساء
قراءة 4 دقائق
ألبير كامو وسارتر

القاهرة: «الخليج»
«من الضروري أن نقع في الحب، على الأقل يكون لدينا سبب للبؤس، الذي يغمرنا في كل الأحوال»، هذه الجملة للفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو تتصدر كتاب «رسائل ألبير كامو إلى ماريا كازاراس» ممثلة المسرح الإسبانية (ترجمته إلى العربية سهى بختة).

كان كامو قبل أربعة أيام من الحادثة، التي أودت بحياته، كتب رسالة إلى ماريا، وعدها بتناول العشاء رفقتها يوم الثلاثاء، حال وصوله إلى باريس، وأخبرها أنه أغلق ملفاته، فلا مزيد من العمل، لا شيء سوى الأمنيات الطيبة في رأس السنة.

تلك رسالته الأخيرة للحبيبة، التي راسلها لفترة امتدت من عام 1944 إلى 1959 وابتدأت القصة بينهما في السادس من يونيو/ حزيران سنة 1944، يوم إنزال الحلفاء بشاطئ النورماندي، حيث التقيا مصادفة، وكانت ماريا اسماً مألوفا في باريس، ففي سن المراهقة درست المسرح والفلسفة في باريس، وهي الموضوعات نفسها التي درسها كامو، عندما كان طالباً في الجزائر، وكانت وصلت إلى باريس في سن الرابعة عشرة عام 1936 كمعظم الجمهوريين الأسبان، أُكرهت على المنفى مع والدها.

وحين بلغت ماريا من العمر 21 سنة، كان كامو يبلغ الثلاثين من العمر، أما زوجته فرانسين فكانت بعيدة عنه بسبب الاحتلال الألماني لفرنسا، وحين انتهت الحرب قررت ماريا أن تنهي القصة، لتعود فرانسين إلى كامو، وتتوقف الرسائل، ثم بعد فراق دام أربع سنوات التقيا مصادفة، في نفس تاريخ لقائهما الأول، ليعودا مجدداً حبيبين، وتدوم علاقتهما المستحيلة حتى مماته.

وفي خطاب مؤلم أخبر كامو ماريا عن محاولة انتحار زوجته، حيث هرعت إلى نافذة الشرفة، لإلقاء نفسها، وكادت تنجح لولا يقظته، وعلى الرغم من إصراره على أنه لم «يفهم تماماً» حالتها المتدهورة، وجد نفسه في موقف كان هو جزءاً منه.

هذا يذهب بنا هذا إلى فكرة الاستقالة، التي كثيراً ما ردّدها، فعندما أخبرها أنه يرفض الاستقالة طوال حياته، كان يقصد مقاومة إغراء تطليق زوجته.

كان يعرف أن ما يجمعه بزوجته ملزم بالوفاء به، حتى ولو على حساب متعه العاطفية، وفي رسالة كتبها بعد أيام قليلة من هذه الواقعة أخبر ماريا: «سأحاول إسعاد فرانسين»، ولم يتوقف عن الكتابة إلى ماريا، كانت رسائله تتدفق إليها عبر العالم، من الجزائر إلى بلجيكا ومن السويد إلى البرازيل، ومن كل مكان زاره ليخبرها في كل حين أنها لا تغادر تفكيره.

صدر الكتاب بالفرنسية عام 2017 ونشرت الرسائل مسبوقة بمقدمة كتبتها كاترين ابنة كامو، شكرت فيها ماريا كازاراس ووالدها، لأنهما جعلا العالم مكاناً أرحب بحبهما، وقد بلغ عدد الرسائل 865 رسالة، حملت إلينا تفاصيل حميمة، وحباً عاصفاً محفوفاً بالفراق، رسائل نتلمس في حروفها رقة كامو العاشق، وبين أسطرها اندفاعاً وشغفاً بالحياة والحب لفيلسوف العدم.

تكتب ابنته في المقدمة: «تمد أحرفها أطراف الأرض، وتجعل العالم أكبر، والفضاء أكثر إشراقاً ودقة في الهواء لمجرد وجودها»، وتختتم مقدمتها بتوجيه الشكر لكامو وماريا: «لقد جعلت رسائلهما الأرض أكثر رحابة والفضاء أكثر إشراقاً، والهواء أكثر خفة، ببساطة لأنهما وُجدا».

وفي الوقت نفسه تسامحه على الألم، الذي سببته هذه العلاقة لأمها، فبعد سنوات، بدأت كاترين صداقة مع ماريا كازاراس، وساعدتها على استعادة الرسائل المفقودة التي تخص والدها لإنجاز مشروع كتابها، وكانت ماريا كازاراس اعتزلت الوسط الفني، ورفضت التطرق لعلاقتها بألبير كامو، رغم إغراءات دور النشر برغبتها في إنجاز كتاب عن هذه العلاقة، موثقاً بالرسائل المتبادلة.

تضيف كاترين كامو أن وجود أبيها في فرنسا باعد بينه وبين زوجته فرانسين، لكنها استطاعت الالتحاق به فيما بعد، ما عجل بانفصال الحبيبين، لكن في 6 يونيو/ حزيران 1948، بينما كانا يعبران جادة سان جيرمان التقيا، ولم يتركا بعضهما بعضاً مرة أخرى هذه المرة. وفي رسالة تحمل عنوان «الساعة الرابعة بعد الزوال» في يونيو 1944 يكتب كامو: «ماريا الصغيرة، لا أعلم إن كنت تفكرين في الاتصال بي، لا أعلم أين أنت في هذه اللحظة، ولا كيف أصل إليك، لا أملك شيئاً بعينه كي أقوله لك، ليس لدي سوى هذه الموجة، التي ترفعني من آلامي، وهذه الحاجة الملحّة في الثقة وفي الحب الذي أكنه لك».

الإنسان المتمرد
في عام 1951، جاءت القطيعة بين سارتر وكامو بعدما نشر «الإنسان المتمرد»، وقام سارتر بنشر مراجعة شديدة النقد له، فأجابه كامو برسالة طويلة وحادة، وردّ سارتر دمر العلاقة التي جمعتهما لسنوات، فشعر كامو بالحزن والغضب.
في الرسائل اللاحقة، لم تعد ماريا تطلب من كامو أن يكتب، بل أن يعيش حياته كما يريد، ألا يحرم نفسه من تلك اللحظات الجميلة التي تصنع الفرق في الحياة، كان يعاني في صمت من الالتزام، يشكو الحرمان، عدم التفهم، الخصوصية المنتهكة، فكتبت له: «عش كما تريد دائماً، إذا كنت لا ترغب في الكتابة، فلا تفعل ذلك، أنت تعرف ما يكفي الآن أنه لا يسعنا إلا أن نكرر أنفسنا».

وكررت في رسائل لاحقة أنها قد أخبرته بالفعل بكل شيء، وأنها لا تستطيع تخيّل الحياة من دونه، وتظهر الرسائل التي لم تنقطع لمدة اثني عشر عاماً، حبهما بوضوح، كتبت في 4 يونيو 1950: «التقينا، تعرّفنا إلى بعضنا بعضاً، استسلم كل منا إلى الآخر، فزنا بحب متأجج شديد من البلّور الخالص، أتدرك سعادتنا وذاك الذي منحنا إياه؟».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ymu9eeay

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"