عصر الضجيج

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في استطلاع لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» حول أشد الأشياء إزعاجاً وضجيجاً في الحياة، صنف المشاركون في الاستطلاع ما يزعجهم في فئات جاءت على النحو التالي: «الوسائل التقنية الأشد إزعاجاً»، وتشمل: المكالمات الآلية، الإعلانات التلقائية، عصا السيلفي، هواتف الآخرين النقالة، دراجات السكوتر..و «الصوت الأشد إزعاجاً»، ويشمل: أزيز الحشرات، نباح الكلاب، آلة كنس أوراق الشجر، مضغ العلكة بفم مفتوح، أجهزة الإنذار في السيارات، شخص يغني بصوت رديء، أشغال البناء، طقطقة الأصابع، و«الأشخاص الأشد إزعاجاً»: المعلنون عبر الهاتف، شخص يتخطى دوره في الطابور، أصحاب الصوت الهامس، المشاهير، والمتشددين.

نحن نعيش في عصر الضجيج، على المستويات كافة، فالإعلام على سبيل المثال حالة معبرة جداً عن الضجيج، وذلك عندما نلهث وراء الأخبار هنا وهناك، نتابع ما يحدث ويدخل في رأسنا عشرات المعلومات، وتغزو عقولنا الكثير من الآراء ووجهات النظر التي تحاول أن تشكل وعينا نحو قضية ما.

الإنترنت ضجيج بمذاق خاص، مع الشبكة نحن نحاول رؤية العالم والامساك الرمزي به أو التواصل معه أو الزعيق معبرين عن أنفسنا، كل هذه المشاعر تنتابنا ونحن في مواقع التواصل، ولكنها في الحقيقة تركيز مكثف للضجيج، تركيز يغزو العين، ويحتل العقل ويسرق الوقت. نحن في الإنترنت لا ننفرد بأنفسنا أو نلمس العالم عن بعد، نحن نقذف بأنفسنا في شبكة معقدة، بل شديدة التعقيد من الضجيج المتشابك. أنا أجلس الآن لأكتب أحد الموضوعات للصحيفة التي أعمل بها وفي الوقت نفسه أدردش مع أحدهم وأفتح متصفح الإنترنت لأطالع آخر الأخبار، وألجأ إلى هذا الموقع أو ذاك للحصول على معلومة تفيديني في الموضوع الذي أكتبه، وخلال ذلك أكتب تغريدة أو أعلق على تغريدة لشخص آخر أو أتسلل إلى أحد تطبيقات الترفيه، معظمنا يفعل ذلك في الوقت نفسه.

للضجيج، قاموسه اللغوي الخاص، الذي نقرأ فيه عن الجلبة والزعيق والصريخ والإزعاج..، وله أدواته الملموسة مثل البوق والناقوس والميكروفون، وله أيضاً إحالات معرفية وتاريخية ترتبط بالهوية والحماية، واستخدامات سياسية ووظائف اجتماعية، ويعبر عن ثقافات عديدة وطبقات ذات موروث ثري. هو حالة متكاملة..نفر منه أحياناً إلى لحظات صمت للتفكير قبل الكلام أو اتخاذ القرار، أو نهرب إلى غرفة حيث نعزل أنفسنا، وفي الحالتين نعاين ضجيج الذات عندما تتأمل أحوالها أو تستبطن العالم المحيط بها أو تقر عزمها على التعبير عن موقف ما، وفي أحيان أخرى نتعاطف مع ضجيج البسطاء، ونتلمس فسحة من المتعة والسعادة عبر الانخراط في احتفالاتهم، بحثاً عن لحظة صخب ننسى فيها ضجيج الذات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4nvjv9ff

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"