إعلام اللاعقل

00:34 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

كان الإعلام دوماً في دائرة نقد المفكرين وعلماء الاجتماع، والذين استخدموا مختلف المناهج والأدوات التي تحلل وتشرح الرسائل الإعلامية: أهدافها ووظائفها وجمهورها المتوقع والإيديولوجيا التي تقف وراءها. وقيل كثيراً إن الإعلام يقصف العقل ويتلاعب به وأنه لا توجد وسيلة إعلامية محايدة أو موضوعية، وأن جميع وسائل الإعلام لديها أولويات في سياستها التحريرية، ودخل حتى علماء اللغة على الخط بالنسبة للإعلام المكتوب وحللوا لغته ودلالاته والهدف من وراء استخدام بعض المفردات وما تخفيه وترمز إليه.

وتزايد نقد الإعلام مع صعود الفضائيات وتغوّل الصورة، وصدرت العشرات من الأدبيات التي لا هم لها إلا دراسة تأثير الصورة على الوعي، والبعض تعامل معها كما يتعامل مع النص، ووظف البعض الآخر رؤى فلسفية للتعاطي مع مفعول الصورة وتأثيرها في الذهن، حتى باتت الصورة خلال تسعينات القرن الماضي بطلة التحليلات الفلسفية، إلى درجة أن تطرف الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في القول، أن حرب الخليج الثانية 1991 لم تقع، وكان يعني أن الحرب التي شاهدناها على شاشات الفضائيات تكاد أن تكون حرباً أخرى بخلاف التي دارت أحداثها بالفعل على الأرض.

وعلى الرغم من هذا النقد الذي تلقاه الإعلام في مرحلتيه «المكتوبة والمرئية» إلا أنه كان هناك قدر، ولو ضئيل، من الاحترام للعقل، أما مع مرحلة إعلام مواقع التواصل فلم يعد هناك أي مكان للعقل. يتسم الإعلام الجديد أو الفائق الحداثة بأنه لحظي، بمعنى أنه لا يترك أي مجال للتأمل والتفكير والتحليل، وكلها سمات ترتبط أساسا بالعقل. وهناك ظاهرة مزدوجة لذلك الإعلام، فعلى الرغم من تلك الصور والفيديوهات التي تحقق ملايين المشاهدات إلا أنها لا تبقى في الذاكرة لأكثر من يوم، والأهم أنها لا تؤثر، ولنا هنا أن نقارنها بتأثير جريدة كانت توزع في الماضي مليون نسخة، وهو أمر لا يتعلق بالتأثير وحسب، ولكنه يمتد إلى التأريخ والتوثيق، فذلك الإعلام بلا تاريخ، وهي مسألة تتعلق بالعقل أيضاً والذي لا يمكننا تصوره بلا تاريخ.

في الإعلام التقليدي كذلك كانت لدينا قدرة على الاختيار، نشتري فقط تلك الجريدة التي نعتقد أنها تعبر عن أفكارنا وميولنا، أما الإعلام الجديد فهو يلاحقنا في كل مكان، بل هو امتداد لنا متمثلاً في الهاتف المحمول، ونتعرض إلى كثير من التدفق الإعلامي الذي لا نرغبه رغماً عنا، أي إن عقولنا لم تعد تُقصف، كما كان يقال في الماضي، ولكنها احتٌُلت أو غابت ولم تعد لديها قدرة على المقاومة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/29m6ye8y

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"