عادي
أفاق

الاقتباس التمهيدي.. عندما يراوغنا الكاتب

00:01 صباحا
قراءة 7 دقائق
الاقتباس التمهيدي..عندما يراوغنا الكاتب
فاطمة المزروعي
  • بعض الكتاب يراهن على ذكاء المتلقي

الشارقة: أشرف إبراهيم
ثمة أمل في حياة كل كاتب أن تصل كلماته إلى كل قارئ برغبة قوية في أن يثير الإعجاب، لذا يحشد الكثير من الشعراء والروائيين والأدباء عامة بعض العبارات المقتبسة من كاتب أو مفكر أو فيلسوف كتمهيد يفتتح به نصه.. هذا الاقتباس التمهيدي كانت له دلالاته في زمن قريب، لكنه في هذا العصر أخذ بعداً آخر لدرجة أن عدداً كبيراً من الكتب الأدبية التي صدرت مؤخراً أضحت تتزين باقتباسات من هذا النوع، تقود إلى شيء في نفس الكاتب بتذييل يحتمل في بعض الأحيان المراوغة، إذ يراهن من يجنح إليه على ذكاء القارئ وفطنته في فهم المغزى الحقيقي منه وجدواه والهدف من تصديره في الصفحات الأولى من الكتب، بخاصة أن الاقتباس التمهيدي قد يتكرر في صفحة واحدة على هيئة نصوص لكتاب متعددين، ما يجعل البعض يتساءل عن جدوى الاستشهاد بنص أو أكثر كعتبة أولى قبل أن يخوص القارئ في قراءة نص طويل للمؤلف.

لكن كيف يختار الكاتب الاقتباس التمهيدي وما شروط الصيغة التي من المفترض أن يجبل عليها؟ وما الإضافة التي يشكلها للنص الأصلي؟

في السطور الآتية نستعرض بعضاً من اقتباسات تمهيدية حفلت بها كتب المبدعين في مجالات أدبية مختلفة، وشكلت دائرة محورية للتأويل، إذ إن الاقتباس التمهيدي المنسوخ من كاتب إلى آخر يجب أن يكون قوي الأثر، دقيقاً في صياغته، دالاً على فكرة لها صدى في الوجدان، وهو ما نحاول رصده ومعرفة تحولاته وأنماطه في كتب بعض المبدعين، ومعرفة آراء بعضهم أيضاً في هذا الصدد.

قصتي مع الشعر

في حياة الشاعر العربي نزار قباني كتاب يؤرخ لحياته الشعرية، يحمل عنوان «قصتي مع الشعر» وضع فيه خلاصة تجربته الذاتية مع القصيدة ومدى ارتباطها بالبيئة التي عاش في أجوائها، وقد وضع نزار هذا الكتاب خوفاً من أن يزيد عليه أحد، ويقول شيئاً عنه على غير الحقيقة، وفي افتتاحية الكتاب استعار نزار خمسة اقتباسات تمهيدية جاءت على النحو الآتي: الأول وهو لأوجين أونسكو الكاتب المسرحي الفرنسي الروماني الذي ملأت شهرته آفاق العالم في فترة ما «كل أدب جديد هو عدائي. العدائية تمتزج بالأصالة، وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار»، ويهدف نزار من هذا الاقتباس إلى تأكيد حضور أدبه الذي لاقي عداء في بداية حياته الشعرية، والذي رافقه حتى وفاته، مستدلاً بهذا الكلام على معاناته ولكي يهيئ القارئ إلى تقبل ما ورد في كتاب قصتي مع الشعر، كونه يبوح بصدق عن تفاصيل دقيقة في حياته الشعرية.

وفي الاقتباس التمهيدي الثاني ذكر مقولة الشاعر والروائي والمخرج المسرحي الفرنسي جان كوكتو: «الكتابة ليست سجادة فارسية يسير فوقها الكاتب، والكاتب يشبه ذلك الحيوان البري الذي كلما طارده الصيادون كتب أفضل» وقد استشهد نزار بهذا القول تعقيباً على الاقتباس الأول ليزيد من حجم الإضاءة على ما ناله في سبيل مواصلة الكتابة في ظل ما واجه من متاعب.

أما القول الثالث فجاء على لسان الكاتب الجزائري محمد ديب: «لولا البحر ولولا المرأة لبقينا يتامى.. فكلاهما يغطينا بالملح الذي يحفظنا»، وهو اقتباس يدل على ارتباط نزار بالمرأة والبحر معاً. وقد جاء الاقتباس الرابع على لسان الروائي السوداني الطيب صالح: «إن الحضارة في رأيي أنثى.. وكل ما هو حضاري هو أنثوي». ثم اختتم نزار جملة اقتباساته من قول مأثور للشاعر أنسي الحاج: «عند كل زيارة شاعر يتغير العالم قليلاً أو كثيراً» فقد ركز نزار في جملة اقتباساته على الشعر والشاعر والمرأة وهو ما يدور حوله كتاب «قصتي مع الشعر» فقد أراد أن يمنح القارئ جرعة من أفكار الآخرين تتطابق مع حياته وأفكاره لذا استطاعت عتبات الاقتباسات التمهيدية أن تبلور تجاوزاته الإبداعية بأفقها المفتوح.

السيد موليير

في رواية «حياة السيد موليير» للأديب الروسي ميخائيل بولغاكوف ذيل الصفحة الأولى باقتباس تمهيدي تحت عنوان «استهلال منقول عن هوارس الشاعر الغنائي والناقد الأدبي اللاتيني الروماني» «حديثي إلى قابلة: ما الذي يمنعني عن قول الحق وأنا أضحك!» فقد أراد بولغاكوف به التلميح السردي لشخصية بطل الرواية في الذاكرة الشعبية، ومن ثم رسْم نسيج للصورة المنقولة عنه بشكل بصري يدخل في تفاصيل الحياة الدالة عليه ضمن التفاتة الكاتب التشكيلية حيث يسرد بولغاكوف حياة موليير في روايته بأسلوب شعبي، إذ يستفيض بولغاكوف في وصف بطله المحبب موليير، متوقفاً عند دمامته الواضحة، والسخرية اللاذعة التي تستوطن عينيه، والتي تترك لدى الآخرين شعوراً بالدهشة عن شخص موليير، الذي يخفي في كثير من الأحيان طبعاً حاداً ومزاجاً متقلباً يتنقل به من لحظات المرح إلى التأمل العميق مما يبرز أن عتبة الاقتباس جاءت موظفة تماماً مع سياق الرواية بخاصة أن بولغاكوف روائي ومسرحي روسي ولد في مدينة كييف وتوفي في موسكو، كان يعمل طبيباً واشتهر برواية المعلم ومارغريتا التي نُشرت بعد ثلاثة عقود من وفاته.

موت صغير

رواية «موت صغير» الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في دورتها العاشرة 2017 م في أبوظبي للكاتب والروائي السعودي محمد حسن علوان، هي سيرة روائية متخيلة لحياة الفيلسوف محيي الدين بن عربي منذ ولادته في الأندلس في منتصف القرن السادس الهجري، وحتى وفاته في دمشق، إذ تستحضر الرواية مرحلة تاريخية بصراعاتها وحروبها واضطراباتها وكيف في قلب هذا الخضم تتشكل وتتطور مسيرة حياة ابن عربي الإنسان. وقد بدأ الروائي أولى صفحاتها بهذا الاقتباس التمهيدي «إلهي ما أحببتك وحدي لكن أحببتك وحدك» هو قول مأثور وشائع لابن عربي فقد أظهر منذ البداية الكاتب أنه شغوف باكتشاف تعابير الصوفية وقد أراد أن يهيئ القارئ للولوج إلى عالم ابن عربي من خلال السيرة المتخيلة التي قدمها عنه في الرواية.

غرفة أبي

صدر للشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن في روايته «غرفة أبي» اقتباسان الأول للشاعر والكاتب الألماني نوفاليس «لا يشعر الفتى بالأمان إلا في غرفة أبيه»، والثاني للفيلسوف الألماني نيتشه «الصامت في الأب ناطق في الابن، ولطالما وجدت في الابن سراً للأب مكشوف النقاب» فقد مهد وازن لما هو غائر في وجدان الكائن البشري، إذ إن الأب في مخيال الراوي يعد رمزاً لمستقبل الإنسان، فهو يسرد في هذه الرواية سيرة ذاتية للبطل متقاطعة مع سيرة أبيه الذي يكاد يجهله، ويسعى للتعرف إليه، ومن ثم رسم صورة له من خلال ذكريات الآخرين عنه، ومنهم الأم والأصدقاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، ثم يواصل البحث عنه من خلال الآثار الصغيرة التي تحكي عنه، من خلال بعض الصور القديمة بالأسود والأبيض والتي تشير إلى نواح كثيرة من حياته وأخباره، وهو من خلال هذه الفكرة الروائية قدم رهانه الجوهري إلى القارئ من خلال تخير اقتباسات تتلبس حالته الإنسانية بما يتماهى مع ما يروي حتى آخر صفحة من الحكاية.

الصورة

صورة مغرية

يرى الشاعر عبدالله السبب أن للاقتباس التمهيدي وجوه عديدة في الواقع الأدبي، وأن هناك خطوات يتخذها الشعراء والكتاب والروائيون والمبدعون بوجه من الذين يعمدون إليه، لأنه يكشف عن تجربة جمالية ترسخت في الوجدان، فمن يستعرض المقطوعات النصية التي مثلت عتبات مقتبسة ذيل بها المبدعون كتبهم يجد أن كل جملة مأخوذة بعناية، إذ تعبر عن نزوعهم إلى فكرة ما، ومدى حضورها في كيانهم، ما يجعل معظم العتبات المأخوذة في مثل هذه السياقات، والتي تم تضمينها في الكتب الأدبية تخضع إلى درجة عالية من التوظيف، فهي قد تتكفل بترسيخ صورة مغرية عن النص الأصلي وتحديد دلالاته لدى العديد من القراء، لافتاً إلى أن الاقتباس التمهيدي موجود حالياً بكثرة في ثقافة الأدب المعاصر، وأصبح فائضاً عن الحد، وكل كاتب يجنح إليه يحاول أن يوجد علاقة بينه وبين النص المكتوب، أما إذ كانت عتبة الاقتباس التمهيدي لا تضيف شيئاً فهذا معناه أن الكاتب مرتبك وغير قادر على رصد الجوهر الحقيقي لطبيعة المدخل، ويعتقد السبب أن الجملة المقتبسة يجب أن تكون لها مساحة بصرية في عقل الكاتب أولاً قبل أن يفاجئ بها القارئ حتى تحدث المفارقة، وتكون بمثابة تمثيل حقيقي للمحتوى الداخلي للكتاب.

رموز جمالية

تؤمن الشاعرة والأديبة د.فاطمة المزروعي أن الاقتباس التمهيدي هو لقطة تزدحم بالرموز الجمالية التي تبلور رؤية الكاتب، رغم أنه يعد نقلاً لصورة مبتكرة خاصة أبدعها مؤلف آخر، لكن نظراً لبلاغتها وسهولتها في الحفظ وحساسيتها البلاغية فإن استخدامها كعتبة مقتبسة في مستهل عمل أدبي هو للتدليل على شيء ظاهري أو باطني، وقد أصبحت مهمة لدى الكثير من الروائيين على الأخص في هذا العصر، وكأن الاقتباس التمهيدي أصبح جزءاً من استعارات رمزية يبحث عنها بعض الأدباء من أجل زيادة رقعة الإضاءة على نصوصهم، مبينة أنها تميل إلى هذه الفكرة كون العديد من المبدعين لديهم قدرة على تخزين بعض العبارات الفارقة التي صدرت عن فلاسفة وكتاب من الماضي أو في العصر الحاضر، وأنها لا تستبعد أن تستشهد بعتبات مقتبسة في أعمالها الإبداعية المقبلة، خصوصاً أن مثل هذه العتبات قد تكمل فكرة النص الأصلي وتجعل القارئ نفسه يبحث عن دلالاتها ومدى ارتباطها بنص الكاتب.
 

الصورة


إغراء القارئ

الروائي والكاتب محمد عمر الهاشمي يرى أن الاقتباس التمهيدي له حمولة أخرى عندما يتم تضمينه في أي كتاب أدبي لأنه في كل الأحوال يكون معمقاً وقادراً على الاستثارة الفكرية، وقد يتعمد بعض الكتاب استخدام أكثر من اقتباس في مفتتح العمل الأدبي استجابة لضرورة ما في نفس المؤلف، فهو في كل الأحوال يلبي الطموح ويشبع جمالياً النص الأصلي، وقد يعقد القارئ مقارنة بين ما ورد في عتبة الاقتباس وبين مجريات النص الأصلي من أجل الخروج بنتائج دالة تؤكد صحة التوظيف، وأن ما تخلق في الصفحة الأولى من كلمات مؤثرة له علاقة وطيدة بأفكار الكاتب ورؤيته، ويجد الهاشمي أن هذا الاتجاه الذي أصبح يتنامى في هذا العصر لدى الكثير من الكتاب هو أمر صحي لا غضاضة فيه، لأن طبيعة الأدب قابلة للنقل والاقتباس وفق معايير واقعية، وأنه في روايته الأولى عمد إلى الاقتباس الذي وفق فيه تماماً، وأنه على المستوى الشخصي يستمتع كثيراً بالكم الهائل من الروايات التي صدرت حديثاً والتي اتخذت من الاقتباس التمهيدي مدخلاً لإغراء القارئ بمطالعة القصة حتى النهاية، وأنه يتوقع أن يحفل المستقبل القريب بمثل هذه الاقتباسات التمهدية في كتب الشعراء والروائيين، والكتاب والمفكرين، لكنه يخشى أن تكون هذه الفكرة من أجل التقليد ومحاكاة الغير، ويتمنى الهاشمي أن يتم استخدام الاقتباس التمهيدي كعتبة لدى الكتاب في إطار الضرورة المنهجية التي تستدعي ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ymuhxtky

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"