واقع مزيف

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

كتب المفكر الراحل جلال أمين يوماً عن «عصر الجماهير الغفيرة»، وكان يعني أننا نعيش في زمن الرجل الأمريكي العادي، فالعولمة بتغولها في العالم فرضت رؤية هذا الرجل وثقافته على الآخرين. ولكني أعتقد أن مصطلح «الجماهير الغفيرة» يحتاج إلى شغل واجتهاد أكثر من ذلك، هو يؤشر في الأساس إلى انفجار سكاني لم يشهد له الكوكب مثيلاً من قبل: كان عدد البشر 2.5 مليار في منتصف القرن الماضي، ووصلوا إلى ستة مليارات في عام 1998 والآن أصبحوا 8 مليارات.

هذا التحول الديموغرافي الدراماتيكي اعتمد بالدرجة الأولى على تحسن أنظمة الصحة وتطوير غير مسبوق للطب، ومشروعات تنموية باتت على أجندة معظم الحكومات، وبالدرجة الثانية على طفرة في الهندسة الوراثية في ما يتعلق بالطعام، وهي في الحقيقة ثورة جعلت الطعام زائفاً أو «fake» بلغة العصر، لغة مواقع التواصل الاجتماعي، ونشأت المطاعم السريعة ومعها تختفي ببطء طقوس الطعام وتقاليده العتيدة، ووفرت العولمة نفسها وعبر صناعة ضخمة منتشرة في بلدان عدة منتجات وأجهزة وملابس في معظمها مقلدة «fake»، وإذا أضفنا ملايين البيوت التي شيدت على هامش المدن، بما يمنح أصحابها إحساساً زائفاً أنهم يعيشون في المدينة، ونشأت الجامعات الخاصة والتعليم الموازي تحت صيغ مختلفة، وكلها أنظمة دراسية يصفها الكثيرون بال «fake». ورسخت مواقع التواصل للغة هجينة، في حالتنا أصبحت الكتابة تخلط بين العربية الفصحى والعامية والمفردات الأجنبية، لغة مكتوبة إما بحروف عربية أو لاتينية، ومنحتنا الإنترنت شعوراً كاذباً بأننا أحرار.

وفي الحقيقة فإن كل شركات التسويق تراقبنا وتستفيد من معلوماتنا، وبقليل من التأمل سندرك أن رواج مصطلح «fake»، لا يعبر عن حالة خداع تكنولوجية، ولكنه في العمق يلخص تحولات اجتماعية جوهرية.

أصبح الإنسان يعيش في الراهن وضعاً مشوهاً يتماس مع ضروريات الحياة التي تتعلق بالمأكل والملبس، ويمتد إلى ثقافته ووعيه، فهو يطالع لحظياً على الإنترنت من يتحدث له عن «العيش الجيد» أو «الحياة الكريمة»، ولكنه في الحقيقة أبعد ما يكون عن هاتين المقولتين، هو يعيش اغتراباً مركباً، في الواقع يعاني ضغوط الحياة وكثيراً ما يمتهن أكثر من عمل لكي يوفر أساسيات الحياة، وفي الواقع الافتراضي هو عرضة لغسيل الدماغ وأسير لصور خادعة.

هذا الانفجار الديموغرافي وما لحقه من تحولات أفرز طبقات مشوهة وغير محددة المعالم، توحي في الظاهر بأنها تتعايش معاً ومن دون مشكلات، ولكن المستقبل وحده هو من سيحدد إلى أي مدى كان هذا التعايش حقيقياً؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc53kd4j

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"