تغيرات كبيرة في الاقتصاد العالمي ... د . لويس حبيقة

01:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

ليست الأزمات الاقتصادية والمالية بالشيء الجديد، اذ عرفتها كل الدول منذ عقود وربما قرون . تنتج الأزمات عن سوء اداء القطاع العام وعن جشع القطاع الخاص، فيذهب ضحيتها المواطن العادي . وفي شرق آسيا مثلا في التسعينات، لم تكن المحفظة الاستثمارية للقطاع الخاص متنوعة جغرافيا ونقديا كما يجب وبالتالي كانت الخسائر كبيرة وعميقة . وحصل هروب أموال كبيرة خلال الأزمة وبعدها، سبب انخفاضا في الادخار الداخلي المتوافر للاقراض الاستثماري . وإذا كانت الاحصاءات الكاملة والصحيحة والدراسات العلمية غير موجودة في الزمن البعيد، فهذا لا يعني ان الأزمات لم تحصل . أحيانا تكون الأزمات منتظرة كأزمة القمح 1929 في الولايات المتحدة الأمريكية وأزمة في العام 1992 في أوروبا، وأحيانا أخرى مفاجئة كما حصل في شرق آسيا في التسعينات وفي المكسيك في سنة 1994 وفي أمريكا السنة الماضية مع الأزمة العقارية . وهنالك تكلفة كبرى لكل الأزمات لا تنحصر بالشق المادي، انما تصل أيضا الى النفسي والانساني والاجتماعي . وتنعكس الأزمات عموما على الواقع المصرفي اذا لم تبدأ به، بسبب أهمية ودور المصارف في الاقتصاد بشقيه الحقيقي والمالي .

ارتفع عدد الدول التي عانت من أزمات مصرفية بدءاً من الثمانينات بسبب الانفتاح المتسرع على تدفقات رؤوس الأموال للعديد من الاقتصادات غير الجاهزة . هنالك 7 دول عرفت أزمات مصرفية في سنة ،1980 و10 دول في سنة 1988 و12 دولة في سنة 1995 ولم ينخفض العدد فيما بعد الا بسبب تدخل المؤسسات الدولية للمساعدة التقنية قبل المادية . فما هي أهم السياسات الوطنية التي ساهمت في تخفيف حجم وعدد الأزمات المصرفية بدءاً من آخر التسعينات؟ نوجزها فيما يلي: اعتماد أسعار صرف مرنة للنقد وبالتالي الخروج من سعر الصرف الثابت في مستويات مرتفعة، ابقاء مستوى الاحتياطي النقدي مرتفعا كوقاية ضرورية في عالم متقلب، ابقاء الدين العام المحرر بالنقد الأجنبي منخفضا نسبة للاحتياطي المذكور (ارتفعت نسبة الدين العام الداخلي من المجموع في الدول الناشئة من 37 .7% في سنة 1990 الى 58 .4% في سنة 2004)، تطبيق المعايير المصرفية الدولية وتشديد الرقابة الرسمية تجنبا للأزمة، وأخيرا وليس آخرا تشجيع الاستثمارات عبر حوافز ضرائبية وتسهيلات ادارية تساهم في تحقيق النمو ورفع مستوى الرفاهية الاجتماعية . هذا لا يعني أن الدول التي تطبق السياسات الوقائية المذكورة لن تعرف الأزمات المالية والنقدية، وانما يعني ان احتمال حصول أزمات جديدة يبقى منخفضا للدول المحافظة . ما هو تأثير أي أزمة مالية أو مصرفية على الاقتصاد الحقيقي؟ يرتكز الجواب على مدى صحة الأوضاع الاقتصادية العامة وانتاجية القطاعات المختلفة عندما تقع الأزمة . لا شك أن نوعية السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المعتمدة تؤثر كثيرا على احتمال تجنب الأزمة وبالتالي على تخفيف الخسائر عندما تقع .

يمر الاقتصاد الدولي في فترة حرجة ترتكز على تغيرات ثلاثة رئيسية: أولها النزاع الهادئ الحاصل بين الدول الصناعية القديمة من جهة والدول الناشئة، وفي مقدمها الصين والهند، من جهة أخرى . تعاني الدول الغربية بما فيها اليابان من تباطؤ في النمو يؤثر على مستويات البطالة داخلها، بينما تعرف الدول الآسيوية معدلات نمو سنوية تقارب ال 10% . يساهم هذا الفارق السنوي الكبير في معدلات النمو في تقريب مستوى الرفاهية الاجتماعية بين المجموعتين ويغير بالتالي خريطة الثروة في العالم، ما يقلق الدول الغربية أيضا، بالاضافة الى العامل الآسيوي، ما تحصله الدول النفطية من أموال بفضل ارتفاع أسعار النفط وحسن ادارتها لثرواتها بعد العديد من التجارب السابقة غير المنتجة . تشعر الدول الصناعية بتغيرات كبرى في موازين القوى المالية، لا بد وأن تؤثر مع الوقت على التوازن السياسي الدولي .

ثانيا، التغير الكبير في السياسة النقدية الأمريكية الهادفة الى تجنب الركود والتي سترتكز مجددا على تخفيضات كبيرة ومتتالية في الفوائد . ماذا يعني هذا الواقع بالنسبة للدولار والركود الأمريكي؟ انخفاض الفوائد يساهم في تخفيض سعر صرف الدولار عالميا ويحدث تضخما في قلب الولايات المتحدة، الا أنه يجنبها الركود . وانخفاض الدولار يساعد في زيادة الصادرات وتخفيض الواردات، وبالتالي يخفف العجز الخارجي الأمريكي . وتخفيض الفائدة يقلل جدا من حظوظ الركود، الا أنه يعيد الى الواجهة مرض العصر السابق أي التضخم . أيهما أسوأ الركود أم التضخم؟ يبدو أن برنانكي اختار محاربة الركود، وهذا منطقي في سنة انتخابات رئاسية وبرلمانية أمريكية في غاية الأهمية والحساسية .

أما ثالثا، فهي الأزمة العقارية الأمريكية التي تنعكس سلبا على الاقراض المصرفي الجديد وبالتالي على تمويل استثمارات القطاع الخاص . إذا أضفنا اليها ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية والمعدنية، نفهم فعلا أسباب تواجد الركود والتضخم في نفس الوقت في الاقتصاد الأمريكي . سببت الأزمة العقارية، بالإضافة إلى العوامل الأخرى، تقلبات كبرى في الأسواق المالية الأمريكية لم تشهدها منذ سقوط أسهم التكنولوجيا في منتصف العام 2000 .

أثرت الأزمة العقارية سلبا على ثقة المستثمرين بالاقتصاد وفرص نموه أكثر من تأثيرها على الواقع الاقتصادي الأمريكي الحالي . ومن مساوئ الأزمة العقارية انعكاسها على الأسواق الأوروبية خصوصاً البريطانية، وبالتالي عولمتها الى حد كبير . أما أسعار السلع المسببة للتضخم، فتعود الى تغير كبير في هيكلية الاقتصاد الدولي من الثقل الغربي الى الثقل الآسيوي المتزايد . ارتفاع وهج آسيا يعني عمليا زيادة استهلاكها لكل أنواع السلع والخدمات، وبالتالي تحولها الى مجتمعات استهلاكية متطورة . لا ننكر أبدا الثقل الآسيوي في الانتاج أيضا، والدليل الأخير عليه هو سيارة مجموعة تاتا الهندية التي ستسوقها داخل الهند بما يعادل 2500 دولار أمريكي . سيسبب هذا الاختراع ثورة في النقل من ناحية التكلفة، علما أن تأثيره على التلوث سيكون سلبيا بفضل زيادة عدد السيارات المستعملة في آسيا وخارجها .

كاتب اقتصادي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"