تأملات في مشهد معقّد

00:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن
من منا لم يتوجع لصورة طفل مذعور، يجلس على حافة حجر، من بقايا ركام منزل هدمه نازيون جدد، لا يعرف سبباً لموت والديه، وفقدان شقيقه وأختيه تحت رماد البيت المدمر!

من منا، ما زالت فيه صبوة لنشوة ضوء، في ليل هذا النفق، وآثار دمعة ذرفناها على أحلام نهوض عربي، تعرض للكسر، ويحتاج إلى ترميم وإعادة احتضان.

تتأمل المشهد العام، تُبقي عينيك مفتوحتين، تركز فكرك في تفكيك الحابل عن النابل فيه، تحاول اصطياد التفاؤل، حينما تتذكر أنك قرأت ذات يوم، قصة فرنسية، عن احتلال الألمان لباريس، وقال فيها كاتبها: «إن الربيع القادم في فرنسا، سيكون أكثر اخضراراً، لأن الدبابات النازية، عمّقت الجذور في الأرض».

يهرب التفاؤل، فتحضر صورة لمثقف فرنسي، علقها ديغول على أحد جدران (الإليزيه)، أطلق النار على رأسه، عندما شاهد أول دبابة ألمانية تطأ تراب باريس، وصورة أخرى مماثلة، للشاعر اللبناني خليل حاوي، وهو يطلق رصاصة بندقية صيد على رأسه، حينما شاهد من شرفة بيته دبابات شارون وهي تجول شوارع أول عاصمة عربية، في صيف عام 1982.

تتأمل حال العرب، ليس في حال أفضل، بالتأكيد، مما كانت عليه قبل أربعة عقود، والمشهد هو نفسه، في النظام الدولي، عالم من دون «نظام» يُحترم، صراع «فِيلََة»، يولد حروباً وفقراً وفساداً ورعباً، يسري في عروق البشر، كلما روّج «مجنون» لوليمة نووية.

زلزال غزة، ذكّر العالم بأخطائه، حينما تجاهل أهمية «استقرار» الشرق الأوسط، وفي قلبه «القضية الفلسطينية»، وحينما فشلت أمريكا، في صناعة الاستقرار، والتي لا تجيدها، ومثالها في أفغانستان والعراق وسوريا، وغيرها. وكانت حصيلة سياساتها مخيبة.

جولات التدمير الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية المحتلة لن تتوقف، حتى لو تم التوافق على هدنة، لأن إسرائيل لا تتصرف كدولة طبيعية بحدود نهائية، وتتصرف فوق القانون الدولي، وتسعى إلى تحويل الاحتلال إلى نوع شرس من الاستحلال للدم الفلسطيني، وبدعم وببوليصة تأمين خارجية لممارسة التطهير العرقي والتسلح النووي، والتغول في الأرض واللحم البشري بشكل غير مسبوق، وأمام عيون الكاميرات. وما نخشاه، أن تضيف هذه الإبادة الهمجية المتواصلة والمتكررة منذ عقود، استحقاقات للمحتل القاتل، وليس للضحية، صاحب الأرض والحقوق المشروعة، وأن تستمر لعبة التغطية على الاحتلال، وإطالة أمده واستفحال شروره، مما يعرّض الجملة العصبية الجمعية للفلسطينيين في عموم فلسطين التاريخية، ولدى عرب آخرين إلى مزيد من المقاومة والعصيان.

إن خطورة استمرار هذا النوع من الاحتلال الإحلالي والاستيطاني، واستراتيجياته السوداء، هو فضيحة عارية في هذا العالم المتحضر، وخاصة أنها تتم في أزمنة «التسويات وعمليات السلام»، ويتصرف قادة الاحتلال وقوته العسكرية، وشارعه السياسي على طريقة الثور الهائج، الذي يصيبه لون الدم عادة بالسعار، ويتجاهل حقيقة «إن القوة غير المشفوعة بالحكمة والعدالة، تأكل نفسها في نهاية المطاف».

تتأمل الحروب المعاصرة، بين الدول المتساوية في القوة، وما فيها من رموز وإشارات وضجيج، فلا أمريكا ولا إيران تسعيان إلى حرب إقليمية، ضمن هندسة محسوبة، وقواعد اشتباك مضبوطة، وبعضها معروفة مواعيدها وأعداد صواريخها مقدماً، وإسرائيل شغوفة بتوريط أمريكا في ضرب إيران، والأخيرة تكسب نقاطاً منذ سقوط بغداد وحتى الآن.

تتأمل في أوروبا الغربية، وهي تعيش مرحلة انكشاف استراتيجي، وبفعل تراجع اقتصادي، ورجحان انتصار روسي في أوكرانيا، وتنامي في قوة اليمين الشعبوي، وإحياء في عالم الجنوب، لفكرة مواجهة المركزية الأوروبية، وصعود لأدوار وازنة، روسية وصينية وهندية وإيرانية، تتجاوز حدودها الوطنية، وفي الوقت نفسه، تبدو ظاهرة واضحة لخطى أوروبية غربية، تستعيد فيها صوراً لحالات عنصرية وهمجية، سبق أن عاشتها أوروبا في قرون خلت، صراعات وممارسات عرقية وقومية، وإسكات لحريات التعبير.

تتأمل احتجاجات طلبة جامعات عريقة في الغرب الأوروبي وأمريكا، وكيف خلقت بيئة تضامن إنساني مع سردية مغايرة، لما هو سائد في مجتمعاتها، ذات صلة بالصراع العربي الصهيوني، وعبرت عن نداءات إنسانية بحتة، «إيقاف الحرب، وإدانة القاتل». لكن هذا التأمل، لا يغادره إدراك واعٍ، بأن هذا الحراك الطلابي، لا يشبه الحراك الطلابي في أواخر ستينات القرن العشرين، المضاد للحرب الأمريكية في فيتنام، الزمن تغير والرموز، لا بايدن يشبه جونسون، ولا الضحايا في الحرب هم الضحايا، في فيتنام كان هناك ستون ألف جندي أمريكي من القتلى، وكان جوهر الاعتراض الطلابي هو رفض للتجنيد في هذه الحرب، أما ضحايا اليوم فهم من قوم آخر، وفي زمن انتخابي أمريكي مغاير، لا يُقبل فيه الشباب على الاقتراع إلا بنسبة ضئيلة للغاية، وبالتالي، سيتلاشى تأثير هذه الاحتجاجات مع مرور الوقت... ولن يهدد العلاقات الأمريكية والأوروبية مع إسرائيل.

أمام العالم هدير في أكثر من مكان، آسيوي وإفريقي، ورياح جيوسياسية عاتية، وتفجرات ديموغرافية.

وأمام التجمع الأمريكي والانجلوسكسوني، خيارات صعبة، تجاه رسم سياستها الشرق أوسطية، وعلى رأسها تعديل رسم هذه السياسات بعيداً عن «الحبر الإسرائيلي»، وفي إطار «تحجيم الدور الإسرائيلي»، وإزالة عقلية «الأمن المطلق لإسرائيل».

إسرائيل..لا تصلح، لكي يُبنى عليها حسابات جيوسياسية وأمنية، وحسابات استقرار، طالما ظلت قائمة على عقيدة عناصرها «القوة العارية، والاحتلال المستدام، وشطب عموم فلسطين، من كل ملفات الأمم المتحدة، بدءاً من شطب الأونروا».

تتأمل.. في آخر القول: مقولة «حل الدولتين»،... ولا ترى في مائها سوى السراب... تبحث عن ثقافة التبشير بالعدل وبالحياة.. التي هي أبقى من ثقافة القتل والإبادة السوداء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3tys54hh

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"