عادي
في شاعرية البصر

الألوان.. بهجة تشرق على الروح

23:07 مساء
قراءة 3 دقائق
نجا المهداوي مع لوحة «قمر من حروف»

الشارقة: جاكاتي الشيخ

ينطلق الفنان التونسي نجا المهداوي من الحروف العربية ليشكل عالمه الإبداعي الزاخر بالجمال، وهو ما مكّنه من أن يصبح واحداً من أكثر فناني الوطن العربي المعاصرين إنتاجاً، فقد تشبع منذ طفولته بجماليات الحرف العربي من خلال فن الخط، ثم عزز معارفه من خلال دراسة الفنون الخطية في الغرب، ليسطع نجمه بعد ذلك عربياً ودولياً، كأحد أبرز المجددين في الفن الحروفي العربي.

استطاع مهداوي أن يخرج أعماله من المفهوم الضيق للفن إلى فضاء تشكيلي رحب، يستغل فيه الحرف العربي لدمج ما أمكن من الفنون الجميلة، متكئاً على ما يجود به التراث الإسلامي العربي من أساليب فنية ثرية، كالخط والزخرفة والترصيع، وكل ما يمكن أن يصنع فرجة بصرية فنية، لكنه لم يكتف بترويض تلك الأساليب وتجويدها وتنميق فضاءاتها، بل حاول أن يجعل من الحروف أيقونات مستقلة عن بعضها، مانحاً إياها وهجاً ودلالات جديدة، وهو ما يظهر في لوحته الحروفية «قمر من حروف».

  • تشكيل

في هذه اللوحة يستعمل مهداوي الحروف العربية لتشكيل القمر، ذلك القمر الذي كان ولا يزال رمزاً للجمال والسكينة، وهو ما حاول مهداوي إبرازه، فالناظر إلى القمر في هدوء الليل يحاول أن يقرأ قسماته، حتى إن بعضهم كان يعتقد أن هنالك حروفاً مكتوبة عليه، وذلك ما يبدو أن الفنان استوحى منه فكرة حروفية اللوحة، فاستنفر طاقته الإبداعية من أجل تجسيدها في قالب فني بديع.

منح مهداوي الحروف في هذه اللوحة روحاً جديدة، مفعمة بالنور والجمال والسكينة والدلال، فجعلها راسمة لفسيفساء البهجة اللونية المشرقة، وسابحة في فضاءات المجاز البصري اللامحدود، فقد طوّع هذه الحروف وأخرجها في ثوب قشيب، وكأنه يبوح بشاعرية القمر، بل كأن القمر نفسه يريد أن يقول شعراً للمتسمرين لمشاهدته في هذه اللوحة، حيث تكتسب خطوط الحروف روحانية لا محدودة، وتصنع مع الأشكال الهندسية فضاءات تأطيرية، بمحمولات فنية تفصح عنها الألوان المختارة لكل شكل، ليتجلّى بذلك أسلوبه التجريدي، الذي يوظف من خلاله أشكال الكلمات الملتبسة المفرغة من خصائصها المعنوية ودلالاتها اللفظية، رغم هيئتها المألوفة.

  • مظاهر جمالية

لم يكن القمر في هذه اللوحة مجرد قمر، بل عكس الكثير من مظاهر الجمال الكوني، فقد بدت فيه الأرض بخضرتها وألوانها الأخرى المتداخلة، وبدت فيه الشمس بألوان حممها الحمراء والبرتقالية، وبدت فيه لُمَعٌ من أسرار البحر المرجانية، وبدا في أسفله ظل خفيف في حركة إبداعية متقنة توحي بأن الشكل مجسّم حقيقي في الفضاء، سُلّط عليه ضوء ما، وكأن الفنان يريد أن يمنح المتلقي كل احتمالات الجمال التي تنبعث من ثنايا الألوان المتداخلة، وتسبح بالروح في فضاءات الإمتاع اللامتناهية، ولْيكن الضوء المسلط على القمر نابعاً من ذات المتلقي نفسه، ولْيكن كل هذا الجمال منبعثاً من النفس البشرية بما تختزنه من سمو وفضائل وتوق إلى كل ما هو جميل ومدهش.

لقد تعمد مهداوي المزج بين كل تلك الألوان حتى يبث في لوحته ما أمكن من ذلك السمو الإنساني وتلك الفضائل البشرية المنعكسة في جمال القمر، فكان اللون الأبيض حاضراً بصفائه ورمزيته للبدء، وكأن الحروف المندفعة في فيه رغبات جمالية جامحة، ثم اللون البرتقالي المشع بدفء التفاؤل والسعادة، والأخضر الباعث على انسجام النفس وتوازنها، والأصفر المثير للانتباه، والأحمر المفجّر لمكنونات العاطفة، والأزرق الموحي بصدق المشاعر، والبُنيّ الرامز إلى شدة أواصر الارتباط الروحي، والبنفسجي الآخذ إلى عوالم التأمل والتفكير، وكأن الفنان أراد من كل هذه الألوان أن يصل بالمتلقي إلى مكامن الإبداع الخفية، المستوحاة من مزج الحرفي العربي بأحدث مُحدّدات الفن التشكيلي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4ek463df

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"