الحرب.. ومتاهة القانون

00:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد خليفة

كانت قضية فلسطين، منذ النكبة، ولاتزال، قضية حق لشعب مظلوم تعرض في لحظة غفلة من الزمن لعملية تهجير وإقصاء عن أرضه، ووطنه، في شكل لم يشهد له التاريخ المعاصر مثيلاً، تحت ذريعة أرض بلا شعب، كأن شعبها أشباح لا ترى، لشعب بلا أرض، مقولة تجسد الحقيقة المرة منذ عقود.

لا شكّ في أن شرعة حقوق الإنسان تعترف بحق مختلف الشعوب بالحرية والاستقلال، لكن منطق القوة الغالب في العالم كان، ولا يزال يحول دون حصول الشعب الفلسطيني على حقه في العودة إلى أرضه، وحقه في إقامة دولته المستقلة، ولا يزال هذا الشعب يعاني الاضطهاد والظلم.

إن مسيرة الإنسان الفلسطيني على الأرض تطرح السؤال الأصعب حول حاله، ومصيره، وملابسات حياته، فثمة وضع سلبي يجابه بمعوقات كالفقر، والبطالة، والمرض، أو بيئة حياة قاهرة، والوضع السلبي بالعجز والضياع. وهذه الوضعية تنامت وفق محطات عدة، مرت عليها أجيال في قطاع غزة، والضفة، والضفة الغربية، وهناك أكثر من عشرة آلاف من الرجال والنساء في سجون الاحتلال، وجريمتهم الوحيدة أنهم يطالبون باستقلال بلادهم.

ولكن أهم محطة وأكثرها انعطافاً هي «عملية طوفان الأقصى»، معركة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هي عملية عسكرية شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية، عندما قامت باختراق الحواجز الإسرائيلية، وشن هجوم بري على مستوطنات غلاف غزة، وكان رد الفعل الإسرائيلي عاصفاً، ومدمراً.

وفجّر هذا الهجوم جدلاً واسعاً، سياسياً وعسكرياً، في دول العالم، نظراً للرد العسكري العنيف والقاسي، والذي دمّر الإنسان والمجتمع باستخدام إسرائيل القوة غير المشروعة في تدمير الإنسان، والحيوان، ودور العبادة، للتحول الأرض إلى مقبرة للأحياء قبل الموات، ليصير الموت حادثاً كليّاً، من دون تفريق بين طفل، أو امرأة، أو شيخ، ويصبح الموت واقعاً يومياً عابراً. وتصبح أسماء الضحايا، واختفاء عائلات من سجلات السكان خبراً عادياً. وخلفت الحرب 17 ألف طفل يتيم يعيشون من دون أحد الأبوين، وأكثر من 3500 طفل دون سن ال5 سنوات معرضون للموت بسبب التجويع. وارتفع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي إلى أكثر من 36 ألف ضحية، و82 ألف مصاب، منذ 7 أكتوبر.

إن هذه الحرب تشبه وجهاً من وجوه الحرب العالمية الثانية في عالم السياسة، وكأن غزة تحولت إلى مهرجان للموت واسع الأرجاء، مترامي الأنحاء براً، وبحراً، وجواً.

لقد تعرت المادية الحديثة أمام اختبار الدم، فالقوي لا يزال يلتهم الضعيف باستبعاده، أو قتله، واستحلال أرضه، وعرضه، كأن البشرية تعود أدراجها، حيث العبودية، وازدراء الناس حسب ألوانهم، ومعتقداتهم، وأجناسهم.

إن السبب الأساسي الكامن، وراء تهافت الأنظمة السياسية والاجتماعية في المعسكرين العملاقين، يتمثل في افتقار الحضارة المادية إلى البعد الأخلاقي والسياسي، حتى غمر الظلم اليوم بظلاله الكرة الأرضية؛ بما يعني اختلالاً في التراكيب العقلية، والقواعد المنطقية على أثر ما خلفته الحرب العالمية الثانية من دمار للبشر والحجر، بطريقة صدمت الإنسان، وجعلته يفقد ثقته بالقيم الأخلاقية، وفي كل المرجعيات التي كان يستمد منها معاييره السلوكية خلال الحروب في نطاق الزمن المتناهي، وبين الوجود الحقيقي، من خلال ذلك لا إنسانية القانون نحو السيئ من الحياة الإنسانية، وتفضيل المعتقد على الكل، حتى بشكل كارثي يخلق الانفصالي الإيديولوجي، وأصبح الموت هو رعب الإنسان الأكبر والأبرز، إلى قضية الموت، والفناء، والتدمير، وقتل الأطفال، والنساء والأبرياء، وسيادة العقلية المتطرفة والنظرة إلى المعيار «القتل» على أنه مطلق.

هذه الإرادة التي فرضتها إسرائيل، نفياً لوجود الإنسان الفلسطيني نحو الموت بالاستخدام غير المشروع للقوة العسكرية بأساليب متعددة، وتدمير المستشفيات، والمدارس، والجامعات، والمنازل، ودور العبادة، إضافة إلى الحصار الخانق وفرض المجاعة في بشاعة لا نظير لها أمام سمع وبصر المجتمع الدولي، وعجز المؤسسات الدولية عن ممارسة مهامها أمام سطوة وغطرسة القوة. ومن هذا المنطلق أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بالتوقف الفوري لعملياتها العسكرية في رفح، التي زعموا أنها ملاذ الفارين من الشمال، مشيرة إلى الخطر المباشر على الشعب، وأمرت بفتح معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية.

أما على الصعيدين، السياسي والشعبي، فسرعان ما تحرك ضمير العالم، وحدثت تظاهرات شعبية حتى في أكثر الدول تضامناً مع إسرائيل. وبادرت في شهر مارس/ آذار الماضي دول مثل: جامايكا، وباربادوس، وترينيداد، وتوباغو، وجزر البهاما، إلى الاعتراف بدولة فلسطين؛ ثم أعلنت أربع دول أوروبية، هي: إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج، وسلوفينيا، اعترافها بدولة فلسطين، في تطور غير مسبوق في مواقف تلك الدول. وبذلك أصبح العالم على مشارف حدوث تغيير كبير لمصلحة الشعب الفلسطيني، فلا مراوحة بعد اليوم في المكان نفسه، ولا مجال بعد اليوم للدوران في حلقة مفرغة، وربما كان الحل الديمقراطي هو الأكثر موضوعية، وكما تم إنهاء نظام حكم البيض في جنوب أفريقيا بقرار دولي جامع، وإشاعة السلام في تلك البقاع، فإن المسار نفسه قد تسلكه القضية الفلسطينية، وقد تتحول أرض فلسطين إلى مكان لالتقاء الديانات وفق رؤية دولية تنال موافقة ورضا الدول العربية، والعالم؛ على أساس معطيات عالية مستقلة يفرضها الضمير العالمي، والشعور الموضوعي، وليكن المثل الأعلى للإنسان إذن، الحب الكامل للإنسانية الكاملة في الكون بأكمله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/8k62mfxz

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"