عادي
في شاعرية البصر

الحرف العربي يحلّق في عوالم الحج

19:52 مساء
قراءة 3 دقائق
محمود إبراهيم سلامة

الشارقة: جاكاتي الشيخ
عاش الفنان المصري محمود إبراهيم سلامة قرناً من الزمن، بذل فيه معظم أيام حياته على الاشتغال بفن الخط العربي، فعُرف كواحد من أبرز الخطاطين العرب؛ حيث أبدع الكثير من الأعمال المتنوعة، وعمل في العديد من الصحف والمجلات المصرية؛ كاتباً ومصمماً، وحصد العديد من الجوائز العالمية.

بدأت مسيرة سلامة عندما كان يدرس في كُتَّاب قريته، حين لاحظ شيخه حُسن خطه، وتميّزه فيه عن رفاقه، وطلب منهم تقليده، ليكتشفه لاحقاً معلم اللغة العربية في مدرسة المعلمين بالقاهرة، ويشير عليه بالالتحاق بمدرسة تحسين الخطوط التي كان لها دور كبير في صقل موهبته، لينجح، متفوقاً على زملائه، مُعلماً وخطاطاً في الوقت نفسه، ويُتبع ذلك التفوق بدبلوم التخصص في الزخرفة الإسلامية والتذهيب.

* امتزاج أسلوبي

تميز سلامة بالإبداع في كل أنواع الخط العربي، وهو ما تشهد عليه لوحته التي بين أيدينا بنص قرآني عن الحج؛ حيث مزج فيها بين أربعة خطوط؛ هي: الثلث والثلث الجلي والديواني الجلي والكوفي، وكان قد شرُف بكتابة المصحف الشريف ست مرات بخطوط مختلفة، وهو الخطاط المصري الوحيد الذي كتب المصحف الشريف بخط الثلث، وهو أمر لم يحدث منذ أيام المماليك، فكان ذلك المصحف درة أعماله ومشروع عمره، حيث سُمّي «المصحف الكبير بخط الثلث»، وكتب العديد من العناوين لأغلفة أبرز الكتب التي طبعت في زمنه، كما تعرف إليه المخرج العالمي مصطفى العقاد، فاختاره لكتابة أسماء فريق العمل «تيترات»، لكل من فيلم الرسالة عام 1976م، وفيلم عمر المختار عام 1981م.

خطّ سلامة هذه اللوحة بالنص القرآني الذي يقول فيه الله جل جلاله: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»، وقد كتبه بخط الثلث والثلث الجلي، وكتب فوقه البسملة بخَط الديواني الجلي، وأحاط اللوحة بإطار كرر فيه اسم الجلالة «الله» بالخط الكوفي، ما يؤكد تمكنه من هذا الفن الجميل، خاصة عندما يقرر أن يرسم بكتابته شكلاً معيناً، وهو ما قام به هنا، حين رسم الكعبة المشرفة مع مئذنتين من مآذن الحرم المكي، ولم يكن اختياره لأسلوب الثلث الجلي اعتباطياً، نظراً لما يتميز به من جمالية وانسيابية، سواء في طريقة كتابة حروفه، أو كلماته، حيث تظهر في صعوبة خطه قدرات الخطاط الحقيقي الذي يقدم من خلاله شكلاً مميزاً، يجعله يشدّ انتباه المشاهد.

* استلهام

اختار سلامة هذا النص القرآني الذي يخاطب فيه الله جل جلاله عباده؛ بأن الحج ليس إلا وقتاً معلوماً ومحدداً، فعلى من نوى القيام به أن يبتعد عن كل ما قد يفسده عليه؛ من فعل أو قول، ومن ذلك الابتعاد عن الجدال الذي قد يدفع صاحبه إلى الغضب في مكان لا يجب أن ينصرف فيه ذهنه عن عبادة الله وتعظيمه؛ لأن الحجاج ضيوف الرحمن، وذلك المكان هو أعظم مكان يُتقرب فيه إلى الله لقبول الأعمال واستجابة الدعاء.

وقد أراد لهذه اللوحة أن تكون مستلهمة من الحرم المكي، ومزج فيها بين الخطوط الأربعة آنفة الذكر، فظهر الخط الكوفي المتقن في كتابة اسم الجلالة «الله»، وظهر خط الديواني الجلي في البسملة التي كتبها في دائرة، وبطريقة مميزة في أعلى اللوحة، وظهر خط الثلث الجلي في جزئها الذي شكل فيه من بعض حروفها مئذنتين لهذا الحرم الشريف، وجعل للكتابة خلفية سوداء بشكل الكعبة المشرفة، حيث كتب على تلك الخلفية بداية النص القرآني: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، مُشكلاً من اقتران حرفي الألف واللام في كلمة «الحج» مئذنة، وهو ما فعله مع ألف ولام كلمة «معلومات»، حيث شكّل بهما المئذنة الثانية، وكتب كلمتي «الحج» و«معلومات» متقابلتين، وكتب كلمة «أشهر» في الأعلى رابطة بينهما، ليكتمل معنى الجملة القرآنية: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، وكأنه يريد أن يوحي بأن ذلك الحج يتم حول تلك الكعبة وفي ذلك المسجد، اللذين كتب حولهما الكلمات، دون أن ينسى إكمال النص القرآني ببقيته: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وقد كتب هذا الجزء الأخير بخط الثلث العادي، وكأنه يريد من المشاهد أن يقرأ بسلاسة الأمر الرباني الوارد فيها، مُستحضراً الطواف بالكعبة.

ولم يشأ سلامة أن يُكثر من الألوان، فكتب اللوحة باللونين الأسود والأبيض فقط، وهي ألوان الكعبة والحرم المكي، مكتفياً بزخرفتها بالحركات والشدات وبعض الفواصل الصغيرة وإطار زخرفي باسم «الجلالة»، وكأنه لا يريد أن يربط ذهن مشاهدها إلا بذلك المكان، وما يمثله من قدسية وصفاء وعظمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ye9y6ka5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"