عادي
في شاعرية البصر

«الثلث الجلي».. الخط سكينة للعين

22:53 مساء
قراءة 4 دقائق
فرهاد قورلو

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يبرز التركي فرهاد قورلو، من بين الفنانين المتميزين في خط الثلث الجلي، الذين وضعوا فيه بصمة خاصة، سواء من خلال لوحاته الشخصية، أو من خلال تخريجه للعديد من الخطاطين المبدعين من مختلف البلدان في هذا النوع الخطي البديع، إضافة إلى إتقانه للعديد من أنواع الخط العربي الأخرى.

تمتاز أعمال قورلو بالجودة في الخطوط العربية بشكل عام، إلا أن جماليتها تكون أكثر إبهاراً عندما ينجزها في خطوط الثلث والنسخ والرقعة؛ حيث بذل جلّ وقت تكوينه ومسيرته في العمل على إتقان هذه الخطوط بشكل خاص، لما يرى فيها من خصائص إبداعية لافتة، وهو ما يظهر من خلال لوحته التي نستعرضها هنا.

  • رونق جمالي

اختار قورلو للوحته جزءاً من الحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ فِي حاجةِ أَخِيهِ كانَ اللهُ فِي حاجتِهِ»، وكتبه بخط الثلث الجلي، الذي يتميز بالمرونة والمطاوعة للتركيب، ما يمنح الخطاط الحرية في التشكيل داخل أي محيط، ليكون قادراً على استغلال المساحات لتنفيذ التصاميم اللازمة، والالتزام بعدة خصائص جمالية، مثل التحكم في تنويع شكل الحرف الواحد في اللوحة الواحدة حسب حاجة التكوين داخل التصميم الخطي، والاختزال والدمج بين الحرفين أو جزء منهما، بما لا يضر بالشكل الأصلي للحرف، ودقة النّسب والمقاييس، من خلال منح الحروف والكلمات حقها من القصر والطول، والسعة والضيق والهيئة، لتحقيق التناسق الشكلي المطلوب، إضافة إلى خاصيتي التقاطع والتراكب في الحروف والكلمات؛ اللتين تحققان تميزاً خاصاً للبنية الخطية، ثم ملء الفراغات بالنقاط وحركات التشكيل والخطوط التزيينية المتنوعة، وكلها سمات تضفي على اللوحة رونقاً جمالياً خاصاً.

ويدعو الحديث الشريف المتضمن في اللوحة إلى التضامن والتكافل بين الناس، من خلال السعي في حاجات بعضها لبعض، فالله، جلّ جلاله، يَعِد على لسان نبيه الكريم بقضاء حاجة المُعين، وهو الإنسان الذي يسعى في حاجة أخيه الإنسان، من أجل إعانته ومساعدته في تحقيقها أو تيسيرها، والوعد من الله شأن عظيم، فكل إنسان له أجره في عونه لأخيه في حاجته الدنيوية، ما لم تخالف الشرع أو الفطرة البشرية، وهي دعوة استهوت الفنان ليقدمها في هذا القالب الجميل.

  • تحفة فنية

صمم قورلو لوحته في شكل بيضِيّ، وانطلق في خط نصها من كتابة «من» أسفل الشكل لتسهيل البداية في قراءة المضمون، وأتبعها في نفس المستوى ب«كان» التي كتب رأس حرف الكاف فيها بخاصية الاختزال والدمج مع حرف الجيم من كلمة «حاجة» فوقه، لتبدو نونا «من» و«كان» في تناسق شكلي بديع، وكتب «في» لتشكل النتوء الأيسر للشكل البيضي، وعاد إلى النتوء الأيمن ليكتب «حاجة»، معتمداً خاصيتي المرونة والمطاوعة في خط الحاء والجيم، وهو ما كرره في خاء كلمة «أخيه» التي كتبها بين «في» و«حاجة»، ثم فوق ذلك المستوى «كان» مُركباً حروفها فيما بينها، وكتب اسم الجلالة «الله» في قمة الشكل للدلالة على عظمته وعظم شأن ثوابه للمعني بالحديث، وكتب «في» في الجانب الأيسار لتتناسق بصرياً مع «في» الأولى الواقعة أسفلها، وكتب «حاجته» مُركباً حروفها فيما بينها، ويظهر في اختلاف طريقة كتابة حروف الجيم والحاء والخاء تحقيق لخاصية التنويع الشكلي للحرف الواحد.

ومن اللافت في تصميم الشكل العام للوحة وضع المقطع الأول من النص كاملاً في مساحة المستوى السفلي للشكل، وتركيب كلماته في ما بينها، للدلالة على الفعل البشري الذي يدعو إليه المضمون، بينما وضع المقطع الثاني كاملاً في مساحة المستوى العلوي للشكل للدلالة على الفعل الإلهي المتمثل في ثواب الله الذي يبشر به المضمون، فيما كانت ألفات المقطع الأول السفلي خطوط وصل بالمقطع الثاني العلوي، للدلالة على العلاقة السببية بين المقطعين؛ بين سعي الإنسان في حاجة أخيه وتحقيق الله لحاجته جزاء على ذلك.

وأكمل الدلالة العامة للعمل باللونين المختارين للوحة، لما يرمز إليه الأسود من إيجابية، مستوحاة من عمل الخير للآخرين، وما يمثله من قيمة أخلاقية راقية، ولما يرمز إليه البرتقالي من تفاؤل بالخير، وعطاء مفضٍ إلى السعادة المتبادلة، لتشكل اللوحة، مكتملة، تحفة فنية أخاذة لمن يشاهدها.

  • إضاءة

ولد فرهاد قورلو سنة 1976م في تركيا، ودرس تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، وتعليمَه الثانوي في مدرسة «سامسون لاديك أكبينار» الأناضولية للمعلمين، ثمّ التحق سنة 1993م بكلية الشريعة في جامعة 19 مايو، واختار فنّ التذهيب كمادّة اختيارية أثناء دراسته، وقد أخذ في هذه الفترة نفسها بتعلّم خطّ الرقعة على يد الأستاذ الخطاط مظفر أجويد، إضافة إلى دراسة الفنون الإسلامية العثمانية التقليدية، وفي سنة 1996م التحق بدروس الأستاذ حسن جلبي في اسطنبول فجوّد عنه خطّي الثلث والنسخ وتحصّل منه على الإجازة سنة 2000م، ثمّ التحق بسلك الشؤون الدينية وأصبح إماماً سنة 2001م، وحاز المرتبة الأولى في العديد من المسابقات المحلية والدولية، وشارك في الكثير من المعارض المشتركة داخل تركيا وخارجها إلى جانب إقامته لمعارض فردية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2jm8e8d2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"