مصر مطالبة بتحرك جاد في إفريقيا

03:02 صباحا
قراءة 8 دقائق

ملف السودان الذي أهمل طويلاً يستحق حواراً واسعاً ومعمقاً. وما كتبته في الأسبوع الماضي بمناسبة زيارة الرئيس حسني مبارك للخرطوم وجوبا - عاصمة الجنوب - فتح شهية بعض الخبراء المعنيين بالموضوع لكي يدلوا بشهاداتهم وآرائهم التي تجاهلناها طويلاً. ومن هذه الشهادات افسحت المجال لمساهمتين من القاهرة والخرطوم لاثنين من كبار اولئك الخبراء، احدهما الدكتور السيد فليفل العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الإفريقية، والثاني هو الدكتور حسن مكي عميد البحوث والدراسات العليا بجامعة إفريقيا العالمية، حيث أجاب كل منهما من زاويته عن السؤال: ما العمل؟ - اليك نص شهادة الدكتور السيد فليفل:

أوافق على الضرورة القصوى لوضع السودان في أعلى أولويات السياسة الخارجية المصرية، وأن يكون ذلك وفق رؤية استراتيجية واضحة المعالم، وازعم أن الأعوام القليلة الماضية شهدت شيئا من ذلك، تمثل في وجود مصري ضمن القوات الأممية والإفريقية في كل من إقليم جنوب السودان وإقليم دارفور، فضلا عن النهج التنموي الذي صاحب عودة الدور المصري إلى السودان، والذي جاءت زيارة الرئيس مبارك لتشهد افتتاح عدد من محطات المياه والكهرباء والمدارس والوحدات الصحية قدمتها مصر هدية للشعب السوداني الشقيق سواء في الإقليمين المذكورين أم في غيرهما.

ولكن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن كل ذلك لا يعبر عن رؤية استراتيجية بعيدة المدى، واضحة المعالم والأهداف. ذلك بأننا رغم كثافة الوجود الإنساني والوجود التنموي والمشاركة في حل المشكلات، لسنا بين الأرقام الأولى من الفاعلين الدوليين في السودان، علماً بأن أصحاب هذه الأرقام لا يشربون من ماء النيل، بل ليسوا أفارقة أصلاً، ونحن هنا لا نتحدث عن الصين أو الولايات المتحدة، بل نتحدث عن إيران وتركيا على سبيل المثال.

إن وضع رؤية استراتيجية لدور مصر الإفريقي، وفي القلب منه دور مصر بالسودان، يحتاج أولاً إلى أن يدرك المصريون أن عهد الاعتماد على العمل مستشاراً إقليميا للولايات المتحدة، قد أدى إلى خسارة أرضية كانت واسعة، وقاعدة كانت راسخة لدور مصر الدولي بدوائره العربية والإفريقية والإسلامية، فضلا عن دورها في دائرة الجنوب التي عبر عنها الحياد الإيجابي وعدم الانحياز من قبل. أقول ذلك بعدما لاحت عدة مؤشرات دلت على إدراك القيادة المصرية لأهمية الانفتاح على شركاء الماضي القريب من روس وهنود وصينيين، بل وحتى فرنسيين، ربما حتى لا يفوتها قطار البناة الجدد لنظام عالمي متعدد الأقطاب، بعدما تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها، وتبين ان الذين كانوا اقل تضرراً في سياساتها هم أولئك الذين حافظوا على مسافة ثابتة بينهم وبينهما، الأمر الذي أكد جدارة مقولاتنا الوطنية القديمة حول التنمية المستقلة، ليس فقط لما فيها من دفع لقوى الفعل الإنتاجي الوطني، ولا لما فيها أيضا من كرامة وحماسة وطنيتين، بل لأنه ثبت أنها طوق نجاة من أزمات الآخرين التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل.

(2)

اذا كنا قادرين على الفعل المستقل، وعلى التحرك كفاعل إقليمي مرعي الجانب، فإن الأمر يقتضي أن نوضح عدداً من المداخل والاقترابات، قبل أن نوغل في وضع الرؤى والاستراتيجيات. من هذه المداخل ما يلي:

* أولاً - إن مصر عليها أن تتحرك في إفريقيا كقوة إفريقية أصلية، وليس كقوة خارجية دولية، وإن هذا يقتضي مراجعة شاملة للهوية الوطنية والقومية والقارية في إطار التكامل النفسي الداخلي للمواطن المصري العربي الإفريقي في آن.

* ثانياً - الإحساس العميق بإفريقيتنا يجعل القسم الأكبر من مصالحنا القومية والوطنية والمائية والدولية يستند إلى العروبة والإفريقية والإسلام معاً، فإفريقياً هي جماع دوائرنا الخارجية كلها. وهذا في حد ذاته يسقط حساسيات تاريخية كثيرة، كما يفتح الباب واسعاً للاندماج العربي الإفريقي، وينهي كثيرا من أوجه الصراع الثقافي، سواء الحقيقي منها، أو المدعي، والحادث منها نتيجة تفاعلات وطنية داخلية، أو المصطنع منها بالخارج.

* ثالثاً - إن السودان هو حقاً مدخل مصر والعرب لإفريقيا، لكنه بالنسبة لمصر هو مصلحتها القريبة والحياتية الحيوية، وهو كرامتها ومحور دورها المباشر عربياً وإفريقياً وإسلامياً، فإذا لم تحفظ فيه مصالحها، فلا حديث بعدئذ عن أي دور في هذه الدوائر جميعاً.

* رابعاً - إن انفراط عقد السودان هو مدخل مباشر لانفراط عقد عشرات الدول الإفريقية، بل وحتى العربية ذلك أنه يؤذن بتفكك دول مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا وإثيوبيا وتشاد، على نحو ما حصل في الصومال وليبيريا وسيراليون، ويحدث الآن في الكونغو. وعندئذ فإن على مصر أن تتوقع قدوم الملايين من المهاجرين، على النحو الذي تشكو منه أوروبا، وتصطنع له اتحاداً في البحر المتوسط، من أجل وقف أو تنظيم الهجرة، تسخر فيه إمكانياتنا لحماية رفاهيتها، بعدما خربت بأيديها في مراحل الاسترقاق والاستعمار والاستلاب (خلال عصر الاستقلال الوطني الإفريقي منذ الستينات) عن طريق إدارة الحروب الأهلية وتهريب السلاح وماس الصراع ونهب الموارد المنظم من خلال المرتزقة وشركات الأمن والشركات متعددة اللصوص الدوليين.

* خامساً - إن أي تحرك مصري اليوم - وإن بدا متأخرا مهما كانت الأسباب، ومهما كان صانعوها أو المتسببون فيها- يستند إلى رصيد قوي لهذا الوطن المميز، ذي البريق الحضاري النادر، بتراث هائل من إنجاز زعاماته التاريخية قادر على حرق المراحل، وتعويض ما فات، شريطة أن ينشغل الوطن بكل مؤسساته في عملية تعليم حقيقي لقياداته المسؤولة عن الاتجاه الإفريقي، مقرونة بتدريب راق للمتنفذين في الميادين الإفريقية، حسب التخصصات النوعية للعمل في المجالات التنموية المختلفة صحة وتعليماً، استثماراً وتجارة، هندسة وزراعة، وكل مجال نملك فيه خبرة، وتحتاجنا إفريقيا فيه، كأبناء بررة يلبون نداء الأم التي أرضعتهم ماء الحياة.

* سادساً - إن سؤالا كبيرا تجب الإجابة عنه: هل يمكن أن تضع جهة ما تصورا لدور مصري في السودان وإفريقيا دون حوار وطني حقيقي بين الأكاديميين والمسؤولين في كافة الأجهزة وأهل الفكر والرأي؟ إن صياغة استراتيجية ما ليست مسؤولية جهة سيادية، ولكنه ترجمة لحاجة المجتمع المصري. وإن المرء ليشعر بقدر كبير من وخز الضمير - رغم ما قضاه من سنوات العمر عاكفا على الشأن الإفريقي منبها ومحذرا وداعيا للاهتمام - من أن هذا الجيل من المصريين لم يترك شيئا من الإنجاز القومي للجيل التالي يقطع بها عقدان أو ثلاثة من الزمان، ريثما تواتيه الفرصة ليضيف هو نفسه لجيل قادم. وبحساب الإنجاز، علماً بأن جيلاً سبقنا ترك لنا السد العالي الذي تحمل زيادتنا السكانية في نحو نصف قرن من أقل من ثلاثين مليون مواطن إلى ثمانين مليون نسمة.

* سابعاً- إن العمل المصري تجاه السودان وإفريقيا يقتضي جهة تخطيط وإدارة، في الأولى وعلى الأقل، وزير للشؤون السودانية، وفي الثانية المجلس الأعلى للشؤون الإفريقية يرأسه الرئيس نفسه، ويكون أمينه العام وزيراً للشؤون الإفريقية، بصلاحيات كاملة، في إطار السياسة الخارجية. فإذا كان للجزر البريطانية، وزير للشؤون الأوروبية وآخر للشؤون الإفريقية، فإنني أتساءل لماذا نتقاعس نحن؟

ثامناً- إن أي حركة تجاه السودان وإفريقيا يجب أن تحسب خطواتها بدقة، وتحدد القوى الفاعلة- سواء مع أو ضد المصلحة المصرية والعربية والإفريقية - وكذلك التنظيمات والمؤسسات والتجمعات الخارجية والقارية والإقليمية. فثمة تفاعلات صنعها أصدقاؤنا الأمريكان قد تعوق حركتنا، وثمة فخاخ نصبت لأطراف عربية/ إفريقية قد تصيبنا بنيران صديقة، وعلينا التحرك بسرعة.

وعلى سبيل المثال فإن بعض القوى التي تصادفنا في القارة تفرض علينا حسابات دقيقة للمصالح مع أطراف كالصين والهند وإيران، لكنها تفرض علينا عدم التردد مطلقاً في حسابات دقيقة للخسائر من التغلغل الإسرائيلي.

(3)

إنني أتمنى أن تقرأ جيداً التفاعلات الاستراتيجية التالية:

1 - لدى الأمريكان مبادرة الشرق الأوسط الكبير وليس فيها السودان، ولديهم مبادرة القرن الإفريقي الكبير وليس فيها شمال السودان ولا مصر، ولديهم مبادرة خليج غينيا تشد دار فور إلى نطاق البترول في غرب القارة، ليصب في السيارات الأمريكية بترول إفريقي بمعدل 25% من الاستهلاك الأمريكي قبل 2015.

ولدى الأمريكان كذلك قيادة عسكرية جديدة لإفريقيا مقرها الآن في ألمانيا، وتبحث عن موطئ قدم لها في القارة، لكن القارة التي تعاني الضنك والجوع أبت كرامتها أن تقدمه لهم رغم كل ادعاءات الصداقة واشارات الترغيب والترهيب.

2 - ولدى فرنسا فرانكفونية ثقافية واقتصادية وسياسية، يفعلها ساركوزي بعدما أهملها شيراك في أواخر أيامه، ولديها أيضا مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط، وهي تجذب دول شمال إفريقيا إليها، وذلك على حساب الاتحاد المغاربي وتجمع الساحل والصحراء، وتجمع الكوميسا.

3 - ولدى بريطانيا الكومنولث، فضلا عن التعلق بذيل الولايات المتحدة تعلق بلير ببوش، ولديها ركائز إقليمية مشتركة مع الأمريكان مثل غانا وأوغندا وكينيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا. فكيف بعنا مصالحنا، بيع القطاع العام، وركنا إلى صديق اعتاد بيع أصدقائه، ويحبذ جنوب إفريقيا ونيجيريا في مجلس الأمن؟ أليس من حقنا أن نجري مع الصديق حواراً استراتيجياً حقيقياً، وأن نصنع مثله مع هذه القوى الإقليمية الشقيقة وأن نتحرك لكي لا يملأ غيرنا ما يسميه فراغا، وهو فضاؤنا وأرضنا وكياننا.

4 - على صعيد التفاعلات الإقليمية ماذا نحن فاعلون مع بناء الاتحاد الإفريقي، ومع مبادرة نيباد التنموية التي اعتمدت إفريقيا فيها على شراكة مع الغرب الذي أوردته الأزمة المالية موارد الاحتياج للبترودولارات الخليجية، إنني أتوقع فراغاً في تمويل نيباد، فهلا طرحت مصر جديداً مفيداً للمبادرة بالتنسيق مع الأشقاء العرب؟ أم ستضيع هذه الفرصة المواتية؟

5- على صعيد المنظمات الإقليمية: الاتحاد المغاربي في الشمال وس/ص بين دول الساحل في الشمال ودول جنوب الصحراء، وكوميسا في الشمال والشرق حتى الجنوب، وسادك في الجنوب، وإيكواس في الغرب، وايكاس في الوسط: أليست مصر مدعوة لخطوات إيجابية في جمع جهودها وتنسيقها في إطار كل من الاتحاد المغاربي (حيث العرب)، وس/ص (الساحل والصحراء) حيث اللحمة العربية الإفريقية(الإسلامية) وكوميسا (حيث النيل)؟

وكيف ننقل حركتنا الاستراتيجية من تجمع لآخر برشاقة ويسر؟ وكيف تكون لنا حركة فاعلة ونحن نبيع أدواتنا الناجحة من الشركات العامة؟ وكيف نؤدي دورنا من خلال رجال الأعمال؟ ونسأل أي رؤية لهم؟ أي انتماء لهم؟ وقد أخذوا ولم يعطوا، واستدان أغلبهم ولم يسدد، واتجه أكثرهم غنى لدول النفط وأوروبا وإسرائيل، التي لا نكف عن التحذير من تغلغلها في ديارنا الإفريقية؟

وكيف ننسق بين وجودنا كقوة فاعلة في كوميسا واتحاد شرق إفريقيا الوليد الذي يبغي بناء جمهورية شرق إفريقيا أو بالسواحيلية جمهوري دالأفريقا مشارقة وهي تسعى لجذب جنوب السودان إليها في إطار إفريقي غير متعاون مع الشمال العربي/ الإفريقي، فماذا عن مصالحنا النيلية، وفرص التوسع فيها لصالح الأجيال القادمة في هذه الحالة؟

وكيف ننسق أيضا مع تجمع (ايجاد) لدول القرن الإفريقي، وهي التي نجح شركاؤها الأوروبيون في إبقاء الصومال ممزقاً، وفرض رئيس صُنعَ في أديس أبابا، ودعاها إلى وطنه لتقتل شعبنا العربي الإفريقي في الصومال وتوقع مجازر تعد أهوال دارفور قياساً لها معسكر كشافة؟

وماذا عن تجمع صنعاء الذي يضم اليمن والسودان واثيوبيا، وتأثيره في اريتريا، وهي ركيزة مهمة في الأمن والاستقرار في البحر الأحمر والقرن الإفريقي؟

وماذا عن مبادرات حوض النيل، وحوض النيل الجنوبي، وحوض النيل الشرقي؟ وما صلتها بكل ما سبق؟

وماذا عن جمهورية جنوب إفريقيا، التي تعد إحدى أهم الدول الركائز في الحركة الأمريكية في القارة، وعن جهدها لطرح نفسها في مناطق أمننا القومي وهي لا تعرف عنها الشيء الكثير، ثم هي تنجح في سحب تنزانيا من تجمع كوميسا، وهي دولة نيلية، كيف نتحرك للتصويب والتصحيح؟ وأي أوراق في أيدينا؟

وماذا عن اتجاه جنوب إفريقيا لعقد تحالفات جنوبية/ جنوبية، مع قوى تطرح نفسها للعضوية الدائمة بمجلس الأمن مثل الهند في الشرق والبرازيل في أقصى الغرب؟ وما تأثير هذا التحرك في فرصنا نحن؟ ثم ما تأثير هذا التحرك في شد أطراف دول الاتحاد الإفريقي خارج القارة وخارج الاتحاد؟

(د. السيد فليفل)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"