القاهرة في الشعر المصري

مدينة لها ألف وجه
05:39 صباحا
قراءة 8 دقائق

تحت عنوان قاهرة الدنيا كتب المؤرخ الراحل جمال بدوي في كتابه الفاطمية دولة التفاريح والتباريح: كانت المهمة الأولى لجوهر الصقلي بعدما بلغ الفسطاط هي أن يضع أساسات المدينة الجديدة في الليلة نفسها، وقبل أن يجف عرق الجنود بعد رحلة الغزو المضنية، كان عليهم أن يحفروا أساسات المدينة الجديدة التي شاء القدر أن تحمل اسم القاهرة لتكون قاهرة المعز أو القاهرة المعزية أو قاهرة الدنيا . . فافهمها كما شئت . . لكنها كانت فاتحة عهد جديد في تاريخ الإسلام . . وكان ميلاد القاهرة تنفيذا لأوامر المعز لدين الله .

منذ بناء القاهرة إلى الآن ظلت هذه الكلمة تحمل الكثير من الدلالات التاريخية والاجتماعية، لكن ما يعنينا هنا أنها تكتنز بتاريخ شعري كبير، تجلى عبر ما خلفه لنا أكثر من شاعر حتى إن كلمة مصر كانت تطلق على القاهرة، مثلما جاء في بضع قصائد لشاعر العربية الأكبر المتنبي الذي تحملت القاهرة وحدها ثقل هجائياته لكافور الإخشيدي، حين دخلها هارباً من سيف الدولة الحمداني، وحين خرج منها في جنح الظلام فارا من الإخشيدي، حاكم مصر آنذاك .

هذه الطاقة الشعرية والدلالية التي يحملها اسم العاصمة المصرية القاهرة ربما كانت الدافع للنهوض لدى فؤاد حداد عقب نكسة ،1967 فمن زواياها وأسبلتها استلهم ديوانه الملحمي من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة . . لم يكن لشاعر العامية الأبرز وقتها فؤاد حداد أن يدع نفسه لمرارة الهزيمة، فاستنجد بالتاريخ حصنه الدائم في أشعاره، عاد إليه ليكتب تاريخ القاهرة في ألف عام، ويسجل في ديوانه روح المدينة التي تنهض باستمرار من تحت الركام لتفك قيود الأسر والاحتلال ومن أغلال الهزيمة يأتي فجر يشق ظلاما، لف المدينة فتستعيد القاهرة حريتها، وكل هذا بفضل الإنسان، الذي منح المكان خصوصيته وصموده على مدى القرون .

قبلها بأعوام كان لشاعر مجدد شاب اسمه أحمد عبدالمعطي حجازي أن يصدر ديوانه الأول بعنوان مدينة بلا قلب وهو الديوان الذي وضع صاحبه في الصفوف الأولى من حركة التجديد الشعري في الخمسينات، كانت صدمة الحداثة لذلك الشاب القادم من أعماق الريف المصري، أقوى من كل شعارات التحرر والثورة، فالتفت إلى أعماقه مفجراً شحنة الغضب والخوف من تحول الإنسان في تلك المدينة الخرافية إلى رقم، كان كل شيء يخيفه من تلك المدينة المتوحشة، فرأى غيره يسقط على الرصيف ميتاً، من دون أن يعيره المارة انتباها، كان يقول:

أنا هنا لا شيء كالموت، كرؤيا عابرة

أجرّ ساقي المجهدة .

كان الحنين إلى مهد البراءة الأولى في الريف، والاتكاء على أفكار رومانسية تسربت إليه من تشبعه بشعرية آبائه الرومانسيين، يجعله غير متسق مع حاضره في القاهرة، وهو الحنين ذاته الذي سيجربه حين يقضي 17 عاماً متصلة من حياته في باريس، فيرى القاهرة من بعيد وكأنه يرى مدينة أخرى، كما يبدو في ديوانه الأخير أشجار الاسمنت .

حجازي هنا يقدم اعتذاراً للمدينة، التي ظلمها كثيرا في ديوانه الأول حين نعتها بأنها مدينة بلا قلب هل هو الحنين أم أنها سنوات النضج؟! كان يقول:

وكنّا

أنا والقاهرة الوجهَ والمرايا

خلعنا أشباهنا،

ودخلنا الزمانَ نُصبحُ في عمرنا الجميل ونُمسي

عللاني بوقفةٍ

(هنا كانت قهوة عبدالله، ومتحف الفن الحديث

وإيزافيتش، ودار الأوبرا) . .

وهنا كانت ليلتي، وسريري

دهشتي الأولى، واعترتني موسيقا

اعتراني منها بكاءٌ،

. . .

فاكشفي هذه السحابة عن وجهك النقي

أنا العاشق المقيمُ

مُغنيكِ! .

صور متناقضة

هذه الصورة المتناقضة للقاهرة التي تختلف من شاعر إلى آخر في توقيت متقارب بين فؤاد حداد المولود فيها والذي وجد في تاريخها واسمها رمزا للمقاومة وقهر الأعداء، وحجازي الوافد من إحدى قرى الدلتا الذي لم تر عيناه في المدينة سوى بعض ملامح القهر التي تبدت له كوافد غريب، هذه الحالة من التناقض بين رؤية ابن القاهرة المقيم فيها (فؤاد حداد وصلاح جاهين نموذجاً)، وبين الشاعر الوافد كحجازي وأمل دنقل، تتضح في تلك القسوة التي نعاينها في أشعار دنقل وحجازي، ففي قصيدته الجنوبي يجسد أمل دنقل حياة الوافد إلى القاهرة فلا يرى فيها سوى البؤس والموت والقهر وهي صورة قريبة من تلك التي يطرحها حجازي في ديوانه الأول، في حين يراها صلاح جاهين وفؤاد حداد في صورة أخرى مغايرة صورة ملحمية تجسدت في دواوين تعد ملاحم في ذاتها، حتى إن أقطاب الرومانسية المصرية لم ينفصلوا عن رؤية واقع هذه المدينة رغم اغترابهم المكاني، والتحامهم بالطبيعة في صورتها البكر، قبل أن تغزوها المدنية الحديثة .

ففي مقدمة ديوانه ليالي القاهرة يقول إبراهيم ناجي: كان الظلام العصيب المخيم على القاهرة في سنوات الحرب الأخيرة (العالمية الأولى) ظلاماً متجاوباً مع قتامة في النفوس، وحلوكة تجثم على الصدور، وقد مرت بالشاعر انطباعات صور من هذا الضنك الشامل فسجلها صوراً في هذه الملحمة مختلفة الضروب والإيقاع .

في ديوانه يرى ناجي للقاهرة الخارجة من ويلات الحرب العالمية الأولى وقتها خصوصية تختلف عن غيرها من المدن والعواصم التي مرت بظروف الحرب، فيما يكتب صلاح جاهين ملحمته على اسم مصر، في ظروف مختلفة إلى حد كبير، كما يخصص إحدى رباعياته الشهيرة للقاهرة فيقول: أوصيك يا بني بالقمر والزهور وليل القاهرة المسحور، ويقول حداد في ديوانه: من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة:

القاهرة قالت وقولها حق

أشهد بأنك يا ابن آدم جميل

باني البيوت على بعضها بتميل

في الجو ريق الإنسانية يسيل .

ويقول أيضا في قصيدة أمنية واحدة من الديوان نفسه: الموت أرحم من وداع القاهرة .

ورغم ذلك فإن الناقد د .محمد عبدالمطلب يرى أن القاهرة كمدينة لا تحمل أية خصوصية في الشعر، فرؤية الشعراء لها هي رؤية أي ريفي للمدينة .

ويلفت الناقد الكبير إلى أنه لم يخطر له قبلا أن يرصد صورة القاهرة في شعر هؤلاء الشعراء، وإن كان يراه موضوعا شائقا جديراً بالبحث، فالقاهرة كمدينة شكلت للشعراء الوافدين إليها صدمة لاختلافها عن عالم القرية الذي وفدوا منه بما يحفل به من هدوء وبساطة وصدق، هو على النقيض من الصخب والالتباس البادي في مدينة ضخمة كالقاهرة .

ويؤكد د .عبدالمطلب أن حجازي يشكل حالة خاصة، فصدمته في القاهرة استمرت معه في باريس، فهو في كل مرة كان ينتقل من عالم الصفاء إلى عالم آخر من الضياع والاضطهاد، ويظهر هذا بصورة أقل حدة عند شاعر آخر هو فاروق شوشة الذي ظل لا يرى في القاهرة سوى أحيائها القديمة، وأغفلت عيناه كل ما استجد عليها، هو يرى القاهرة القريبة من المجتمع الريفي . . القاهرة الأكثر أصالة، كذلك كانت هذه الرؤية تحكم حسن فتح الباب وحسن طلب .

ويذهب د . محمد عبدالمطلب إلى أن شعراء السبعينات لم يلتفتوا كثيراً لموضوع المدينة، فهم في الغالب من أبناء المدينة باستثناء حلمي سالم الذي لم يقارن بين المدينة والريف كحالتين حضاريتين متمايزتين بل كحالتين اجتماعيتين، وذلك بسبب نظرته اليسارية، وكذلك محمد عفيفي مطر الذي أخذته نقلته إلى المدينة إلى عالم عرفاني صوفي في حالة لم تتكرر لدى شعراء آخرين .

رؤية د .عبدالمطلب للمدينة في شعر أبناء السبعينات يجسدها الشاعر عبدالمنعم رمضان في حديثه لالخليج فيقول: أنا ابن مدينة ولا أعرف عن الريف إلا القليل، وهذا جزء من المعرفة الثقافية التي حصلتها عن طريق الأفلام والروايات وكتابات الآخرين، لكن لم تتحقق لي معرفة عميقة بالريف، إلا أن مدينتي ليست مدينة، أنا ابن الأماكن ذات الهوية الناقصة، التي تقف على الحافة بين الريف والمدينة، وشعري كله وما أكتبه على الحافة، بل ومواقفي من الآخرين على الحافة، وقد لفت هذا الأمر أحد أصدقائي، فقال إنني لا أكتب إبداعاً جميلاً إلا وأنا على الحافة، فالحافة شرطي كمكان ووجود وإبداع .

ويكمل رمضان: في بداية علاقتي بالشعر الجديد بعد انصرافي عن الشعر العمودي كان أول ديوان لفت نظري هو مدينة بلا قلب لأحمد عبدالمعطي حجازي الذي قرأته في نهاية الستينات، وحفظته عن ظهر قلب، هو رؤية شاب أتى من الريف إلى المدينة ليفاجأ بعالم شديد القسوة لا يأبه بالفرد ولا إنسانيته، والضياع هو ما يحكم رؤيته للمدينة على طول الديوان، ورؤية حجازي لا تختلف عما رآه قبله بلند الحيدري الشاعر العراقي المجدد في ديوانه أغاني المدينة الميتة، أما أنا فمغموس في المدينة، لذا لم أستطع أن أراها كما رآها القادم من خارجها، فأنا أتشبث بالمدينة وأنتمي إليها في إعلائها من الفردية، وكونها مكاناً للتعدد، وفرصة للحداثة على عكس الريف الذي يعد التوحد فيه (الانتظام في عقد العائلة أو القبيلة) هو شرط الوجود، لا حداثة في الريف لأنه لا مكان للفردية، لهذا أنا أنتصر للمدينة وأنتصر لفرديتي لأني أبحث عنها ولا أريد أن أنوب عن أحد .

هذا الانتصار التام والحاسم للمدينة (للقاهرة) يقابله رفض تام وحاسم أيضاً لشاعر آخر من أبرز شعراء جيل السبعينات وهو الشاعر رفعت سلام الذي يقول: لم يتمثل من القاهرة في شعري إلا السلبي من جوانبها، ذلك الصخب الرهيب الذي يحاصر كل من يفد إليها أو يتحرك فيها حيث تضعه في حالة من سجن الروح، ولا تسمح له بالحرية والتحليق على عكس الريف الذي به من الرحابة والأفق الواسع ما يجعل منه مهرباً .

وعما إذا كانت هذه الحالة مميزة للقاهرة ما أدى لأن تنعكس في ما يكتب عنها دون سواها من المدن الصاخبة يقول: هذا صحيح، فالإسكندرية مثلا بها بحر يخفف من وقع صخبها يلعب ذلك الدور الذي تلعبه الحقول في الريف كمخرج ومهرب، لكن القاهرة مدينة مغلقة على ذاتها لا مهرب منها ولا مفر .

ويكمل سلام: تربيت حتى سن العشرين في الريف، فأنا لست ابن المدينة، بل وافداً إليها من منطقة السكون والهدوء والسلام، ربما لهذا السبب لم أرها كما يراها أبناؤها من الشعراء كحداد وجاهين وغيرهما، أنا قادم من حيث يمكن رؤية النجوم ليلا، حالة القاهرة الجهنمية هذه في صخبها وقسوتها اللاإنسانية لا توجد في عاصمة أخرى في العالم، عربية كانت أم أوروبية، وهو ما يؤكده لي أصدقاؤنا من الأدباء الوافدين من عواصم أخرى .

وجوه عدة

أما عن اختلاف أوجه القاهرة من شاعر لآخر ومن قصيدة لأخرى، فيرجع سلام هذا إلى أن القاهرة ليست مدينة واحدة، بل هي خليط من مدن ووجوه عديدة، وهي قادرة على أن تولي كل شاعر الوجه الذي يبحث عنه .

الشاعر محمد آدم لا يختلف مع د .عبدالمطلب في ما ذهب إليه بأن القاهرة شعريا لا تحمل الخصوصية التي تحملها في الواقع، إلا أن آدم يرى أنها مدينة تستحق الكتابة عنها فهي مدينة محورية في هذا العالم، لكنها تشكل حالة تصعب على الوافد إليها الاندماج فيها . ويضرب آدم المثل بديوان حجازي الأشهر مدينة بلا قلب الذي يرصد فيه صورة في غاية القسوة للقاهرة لكونها تحوي من التحولات ما يجافي الريف الساكن المسحور الميثولوجي القادم منه حجازي على حد قوله فشكّلت له مسبباً من مسببات الغربة أو صدمة حضارية إذا جاز التعبير .

وحول قيام شعراء العامية بتقديم صورة أكثر جمالا للقاهرة، يرى آدم أن ذلك يعود لقصور في رؤيتهم، فهم لا يرون في العالم إلا لقاهرة وهم على حد قوله شديدو الالتصاق بالتراث الشعبي والواقع المحلي .آدم

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"