أوكرانيا.. الكوميدي يهزم السياسي!

04:44 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. محمد فراج أبو النور*


لم يكن فوز الممثل الكوميدي الشاب فولوديمير زيلينسكي، في انتخابات الرئاسة الأوكرانية، التي جرت في21 إبريل/نيسان المنقضي أمراً مفاجئاً، فقد كان تقدمه في الجولة الأولى للانتخابات يشير إلى ترجيح فوزه في انتخابات الإعادة؛ لكن المفاجأة الحقيقية، كانت في الانتصار الساحق الذي حققه؛ بحصوله على أكثر من (73%) من أصوات الناخبين، مقابل (25 %) فقط لمنافسه بيترو بوروشينكو، الرئيس المنقضية ولايته؛ بعد معركة انتخابية حامية، شارك فيها 61% ممن لهم حق التصويت.
أبدى كثير من المعلقين دهشتهم من فوز ممثل كوميدي على سياسي محترف ذي خبرة كبيرة، واعتبر كثيرون هذا الفوز تعبيراً عن «رغبة الشعب الأوكراني في التغيير»، غير أن ما حدث في أوكرانيا لم يكن تعبيراً بسيطاً عن الرغبة في التغيير؛ بل كان حدثاً كبيراً شديد الأهمية، وسيكون له ما بعده في السياسة الأوروبية، فأوكرانيا دولة كبيرة كانت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين مسرحاً لصراع محتدم؛ من أجل النفوذ بين روسيا من ناحية، والاتحاد الأوروبي، وحلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة من ناحية أخرى، وهي أكبر دول أوروبا الشرقية بعد روسيا، وتمتد حدودها مع جارتها العملاقة بطول (1500كم) كما أنها تعد معبراً لجزء كبير من الغاز الروسي إلى أوروبا، وهي تتمتع بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، سواء بحدودها الطويلة مع روسيا، أم بسواحلها على البحر الأسود، مخرج الدب الروسي إلى المياه الدافئة.
ومن المعروف أن هذه الاعتبارات هي ما دفع الدول الغربية الكبرى، لممارسة ضغوط شديدة على أوكرانيا؛ للتوقيع على معاهدة شراكة غير متكافئة مع الاتحاد الأوروبي؛ تمهيداً للانضمام إليه، ومن ثم إلى «الناتو»، وكان رفض الرئيس الأوكراني الأسبق يانوكوفيتش سبباً لتحريك القوى الموالية للغرب لإطاحته، وما تلا ذلك من تحرك روسيا؛ للسيطرة على القرم، وتمرد الأغلبية الناطقة بالروسية في منطقة الدونباس، وإعلان استقلالها، ما أدى إلى أزمة حادة في العلاقات الروسية - الغربية، وفرض العقوبات الاقتصادية على موسكو.

أما بيترو بوروشينكو، فهو الرئيس الذي تولى الحكم في ظل هذه الأزمة، والمعروف بأنه رجل الغرب، الذي بنى رصيده السياسي على رفع راية العداء اللدود لروسيا، ودعوة الغرب إلى تشديد العقوبات ضدها؛ بل وإلى الصدام العسكري معها، وتجاهل اتفاقات مينسك لتسوية الأزمة مع منطقة الدونباس الانفصالية جنوب شرقي البلاد، والسعي لاستعادة سيطرة كييف عليه بالقوة العسكرية، بالرغم من الفشل المتكرر لهذه المحاولات والخسائر الكبيرة في الأرواح (أكثر من عشرة آلاف مدني وعسكري)، والمعدات، ودمار المنشآت المدنية.
كما ظل بوروشينكو حتى النهاية يرفع لواء استئناف مساعي التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» غير أن معركة الانتخابات الرئاسية، لم تتح الفرصة؛ لتنفيذ هذا الإجراء.
والحقيقة أن الهزيمة الساحقة التي مُني بها بوروشينكو في الانتخابات الأخيرة لا يمكن عزلها عن السياسات والمواقف التي تبناها، واعتبرها تجسيداً «للوطنية الأوكرانية»، والتي التفت حولها الاتجاهات القومية المتشددة والمتطرفة، الموالية للغرب في مجملها، ولا يمكن أن نتجاهل حقيقة أن خصمه، الذي حقق فوزاً ساحقاً بأكثر من (73 %) من الأصوات لم يرفع أياً من هذه الشعارات؛ بل ركز دعايته على التشهير بالفساد والتغلغل في إدارة بوروشينكو وأجهزة نظامه وبين رجال الأعمال المحيطين به، والذي سمّاه زيلينسكي (فساد الأوليجاركية أو الطغمة) الحاكمة إلى جانب المحيطين بها، كما أولى اهتماماً كبيراً للتشهير بتدهور الأوضاع الاقتصادية، وسوء أساليب إدارة الاقتصاد وإدارة الدولة عموماً، علماً بأن زيلينسكي لم يعلن عن تبنيه لمواقف (قومية متشددة)؛ بل أعلن التزامه باتفاقات مينسك؛ لتسوية أزمة الدونباس، واستعداده للالتقاء بالرئيس الروسي بوتين، إذا كان في هذا ما يحقق مصلحة أوكرانيا، ومن الأهمية بمكان كبير هنا أن نلاحظ أن زيلينسكي لم يتحدث طوال حملته الانتخابية عن «استعادة القرم»، مثلاً، ولم يدع الغرب إلى تشديد عقوباته على روسيا، ولم يغلق باب التفاوض معها أو مع «الانفصاليين» في الدونباس، وغني عن الذاكر أنه لم يتحدث عن الانضمام ل«الناتو».

وتقتضي الموضوعية أن نذكر أن المواقف القومية المتشددة أو المتطرفة والموالية بشدة للغرب و«الناتو»، لم تكن هي وحدها السبب في هزيمة بوروشينكو المتكررة؛ بل ترافق مع هذه المواقف حالة من التعبئة السياسية والعسكرية الشديدة، اتخذها بوروشينكو وحلفاؤه أداة للتغطية على الفساد المستشري في صفوف (النخبة/ الطغمة الحاكمة) على حد تعبير زيلينسكي، وفي الاقتصاد والإدارة عموماً، وعلى الإدارة بالغة السوء للاقتصاد.
فمن ناحية الفساد، أصبحت التصنيفات الدولية تضع أوكرانيا في مراكز متدنية للغاية، وأصبح حلفاؤها الأمريكيون مضطرين للتنديد بالفساد فيها، كما فعل جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق أوباما في حينه، وكما فعل الرئيس الحالي ترامب، الذي وصف الوضع في أوكرانيا ذات مرة بقوله: «كلهم هناك.. فاسدون ولصوص»!
أما من ناحية تدهور الأوضاع الاقتصادية، فيجب أن نشير إلى أن عدم الاستقرار السياسي والأمني- ودائماً بالترافق مع الفساد وسوء الإدارة- كان سبباً في تراجع الناتج المحلي الأوكراني، فقد أدت خسارة القرم والدونباس وحدهما إلى تراجع في الناتج المحلي يقدر بنحو (16%) في الفترة من صيف 2014 إلى صيف 2015 (موقع أوكرانيا بالعربية الرسمي- 9 يوليو/تموز 2015)، وأشارت أرقام إدارة الإحصاءات المركزية الأوكرانية، إلى تراجع للناتج المحلي بنسبة (10-12%)، (رويترز: 18 ديسمبر/كانون الأول 2015)، وإلى أن خسارة الدونباس وحدها أضاعت ( 20 %) من البنية التحتية الصناعية، ونلفت النظر إلى أن أية أرقام للنمو في أوكرانيا خلال السنوات الأخيرة يجب نسبتها إلى المستوى الذي تدهور إليه الناتج المحلي، وهي عموماً تدور حول ال(3%).
وإذا وضعنا في اعتبارنا الإنفاق العسكري الضخم، سنجد أن قدرة الدولة على الاستثمار في إعادة تنظيم الاقتصاد تتراجع بصورة مستمرة، علماً بأن تدفق الاستثمارات الأجنبية من الطبيعي أن يتراجع أو يتوقف تماماً في مثل هذه الظروف غير المستقرة سياسياً وأمنياً.. وقد لجأت إدارة بوروشينكو للاقتراض من الخارج على نطاق واسع؛ بحيث بلغ الدين الخارجي (حوالي 115 مليار دولار) أواخر عام 2018، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي تقريباً.
وفي ظل أوضاع كهذه كان من الصعب أن تسعف بوروشينكو أية شعارات قومية متشددة، أو أطلسية داعية للحرب وإثارة التوترات.
ولعل إدراك هذه الحقيقة كان السبب في تصريح زيلينسكي باستعداده لمناقشة شروط جديدة للتعايش بين أوكرانيا وروسيا (سبوتنيك- 27 إبريل/نيسان 2019).
فالسعي لحل الأزمات المحيطة بأوكرانيا بالطرق السلمية، هو أحد أهم التحديات التي تواجه زيلينسكي، إضافة إلى شن حرب لا هوادة فيها على الفساد، الذي يستنزف موارد البلاد.

* كاتب ومحلل سياسي. خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"