عادي
إنتاج المال 3

فوضى النظام المالي

01:40 صباحا
قراءة 8 دقائق
إعداد:عمر عدس

تسلط عالمة الاقتصاد السياسي، آن بيتيفور، في الحلقة الثالثة، كتابها الجديد «إنتاج المال: كيف نتغلب على سلطة البنوك؟»، الضوء على حقيقة مقولة «لا توجد أموال» المتوارثة، وتبيّن الفرق بين الديْن العام والدين الخاص. وتثبت أن الدين العام، في أوقات الضعف، لا ينبغي أن يكون حاجزاً في طريق الاستثمار العام.
في فصل بعنوان «الفوضى التي نحن فيها»، تقول المؤلفة، إننا نعيش أوقاتاً سياسية ومالية مضطربة، وفي اقتصاد عالمي يطارده الفشل. ونحن مستمرون في البقاء على قيد الحياة على كوكب ترفع حرارته انبعاثاتُ غاز الدفيئة، ويقلقه الانقراض الجماعي الذي يسببه البشر. والنظام المالي مقلقل حالياً، وفاسد وغير موثوق على نطاق واسع. وفضائح البيع المتهورة، والسرقة، والتلاعب والاحتيال لا حصر لها. وصرخة «لا توجد أموال» للمشاريع العزيزة على قلب المجتمع تتردد في كل مكان حولنا. ويؤكدون لنا أنه «لا توجد أموال» لرعاية المسنين، أو رعاية المرضى عقلياً، أو الإسكان الاجتماعي. ولا توجد أموال لتجهيز الأوبرات الموسيقية أو عرض المسرحيات أو غير ذلك من أشكال الإبداع الفني. ولا توجد أموال للاستثمار العام في الحفاظ على المياه، والطاقة المتجددة، والحماية من الفيضانات، وترميم الممتلكات القديمة، وتجهيزاتها التي تسرب الطاقة، أو غير ذلك من الاستثمارات المصممة لحماية المجتمع من التغير المناخي.

أحد أسباب هذه الجوقة الانهزامية هيمنة الديْن العالمي، وعدم تفريق كثير من الاقتصاديين (والجمهور في واقع الأمر) بين الديْن العام والديْن الخاص. وتناقش المؤلفة في هذا الفصل مقولة «لا توجد أموال» المتوارثة، وتبيّن الفرق بين الديْن العام والدين الخاص. وتثبت أن الدين العام، في أوقات الضعف، لا ينبغي أن يكون حاجزاً في طريق الاستثمار العام.
مصادر الأموال
تكمن في صلب ردود الفعل القاصرة سياسياً على الأزمة المالية، قناعة مسيَّرة سياسياً وزائفة: هي أن المجتمع على الرغم من أنه يمكن أن يتحمل إنقاذ نظام مصرفي محطم بطريقة منهجية، لا يستطيع أن يتحمل تمويل ومعالجة الفشل الاقتصادي، وبطالة الشباب، وانعدام أمن الطاقة، والتغير المناخي، والفقر والمرض.
والمجتمع، وفق هذه الحجة، «ليس لديه أموال» لتمويل هذه التحديات، وتحفيز الانتعاش أو خلق فرص للعمل.
وقد أعطت مارجريت تاتشر، التي لا تزال آراؤها في الاقتصاد تلهم سياسات العديد من الحكومات المحافظة والديمقراطية الاجتماعية، أوضح تعبير عن القناعة بأنه «لا توجد أموال»، في كلمة لها عام 1983، جاء فيها:
«إن الدولة ليس لديها مصدر للأموال، سوى المال الذي يكسبه الناس أنفسهم. وإذا أرادت الدولة أن تنفق المزيد، فلن تستطيع أن تفعل ذلك، إلاّ بالاقتراض من مدخراتكم، أو بزيادة الضرائب المفروضة عليكم. وليس من الجيد التفكير بأن شخصاً آخر سيدفع. فذلك الشخص الآخر هو أنتم.
ولا يوجد شيء من قبيل المال العام. هنالك مال دافعي الضرائب فقط».
وتتابع المؤلفة قائلة: واليوم يترافق هذا التأكيد على نحو غريب مع الحقائق الأخيرة لإنقاذ النظام المصرفي العالمي. فبينما يحاول الساسة إقناع جماهير ناخبيهم بأنه «لا توجد أموال»؛ حدث شيء آخر مختلف تماماً تحت ذريعة «التسهيل الكمي» (إدخال أموال جديدة في المال المعروض، من قبل البنوك المركزية). فقد ابتدعت البنوك المركزية تريليونات الدولارات «من لا شيء» وفعلت ذلك بين عشية وضحاها لإنقاذ النظام المصرفي. وأنا أؤكد أنها تريليونات فعلاً.
وجّه السناتور الأمريكي، بيرني ساندرز مكتب المساءلة التابع للحكومة الأمريكية بأن يقوم بعملية تدقيق حسابات لكمية «أموال الدولة» التي أوجدها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ودعمتها الحكومات أثناء الأزمة. وكانت النتيجة أن 16 تريليون دولار «في مساعدة مالية إجمالية»، تم تحريكها من أجل «بعض كبريات المؤسسات والشركات المالية في الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم» ولنلاحظ، أن أي سِنت من تريليونات الدولارات هذه، لم يُجمع بفرض ضرائب على الأمريكيين، على الرغم من أن السيولة التي أوجدها البنك الاحتياطي الفيدرالي، مدعومة من قبل دافعي الضرائب الأمريكيين. ولنلاحظ ثانياً، أن المنتفعين من كل هذا السخاء المدعوم من قبل دافعي الضرائب، كان من بينهم مصرفيون ألمان وبريطانيون وفرنسيون.
وهنا في بريطانيا، أوضح محافظ بنك إنجلترا أمام مؤتمر أسكتلندي في أكتوبر/‏‏تشرين الأول 2009، أن تريليون (وهو ألف مليار) جنيه، أي ما يقرب من ثلثي الناتج السنوي للاقتصاد البريطاني برمته، قد حُركت (مرة أخرى، بين عشية وضحاها) لإنقاذ النظام المصرفي البريطاني. ولم يسبق أبداً في حقل المساعي المالية.. أن كانت قلة بهذا الحجم، مدينة لعدد كبير بهذا الحجم.
وعلى الرغم من هذا الدليل على أن الدولة تملك فعلاً مصادر أخرى للأموال، غير فرض الضرائب، فإن كثيرين تبنوْا تعليل تاتشر، بمن فيهم أولئك الموجودون عند النهاية التقدمية من الطيف السياسي.
كتب ليام بايرن، وهو وزير خزانة بريطاني من حزب العمال، في رسالة إلى خلفه، نُشرت في صحيفة الجارديان في 17 مايو/‏‏ أيار 2010: عزيزي الوزير الرئيسي، يؤسفني أن أقول لكم، إنه لم تبْق لدينا أموال.
وقال جورج أوزبورن، مستشار الخزانة العامة البريطاني لشبكة سكاي نيوز، 27 فبراير/‏‏شباط 2012: لقد نفدت أموال الحكومة البريطانية، لأن كل الأموال أنفقت في سنوات الخير.
وأشار إيد بولز، مستشار المعارضة البريطانية عام 2013 إلى أن «سوف يتعين علينا أن نحكم مع توفر النزر اليسير من الأموال».
«عدم وجود أموال»
تقول المؤلفة إن اللازمة المتكررة «لا توجد أموال»، مصممة لتوضيح الحاجة إلى التقشف، وغيره من السياسات غير المستساغة. والتقشف بدوره، سياسة تستخدَم من قبل الساسة باعتبارها فرصة خلقتها الأزمة لخفض الإنفاق العام وتقليص الدولة. وقد أكد ذلك، الخبيرُ الاقتصادي، جيريمي وارنر، نائب رئيس تحرير صحيفة تلجراف البريطانية، الذي كتب:
«في نهاية المطاف، أنت إما من أشخاص الدولة الكبيرة أو أشخاص الدولة الصغيرة، والتقشف، وما يكرهه أشخاص الدولة الكبيرة بشأن التقشف، هو أن غرضه الأساسي هو تقليص حجم الإنفاق الحكومي.. وبيت القصيد هو أنك لا تستطيع أن تحقق تعديات خطرة على حجم الدولة، إلاّ أثناء الأزمات الاقتصادية. وقد يكون ذلك يتحرك في نفس الاتجاه الذي تتحرك فيه الحالة الإجمالية للاقتصاد، ولكن لا توجد شهية له أبداً في أيام الخير، ولا يمكن فعله إلاّ في أوقات الضنك».
والساسة بتبنيهم لسياسات التقشف، لجأوا عملياً إلى سياسات «قاعدة الذهب» (أي تحديد وحدة العملة بالرجوع إلى الذهب) العتيقة التي كانت سائدة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وكما في ذلك الوقت تماماً، قاموا مرة أخرى بفرض أو تحمّل سياسات تميل إلى التسبب في الانكماش والانقباض، على السكان بمجملهم في أوروبا واليابان والولايات المتحدة. والسياسات المسببة للانكماش ذات تأثير على خفض موارد المال، ومعه، خفض الأرباح والأجور، والدخول والأسعار.
وفي الوقت ذاته، فإن الانكماش الذي سبّبه التقلص الاقتصادي، أدى إلى ارتفاع، لا انخفاض الدين العام.
وخلافاً للتضخم الذي يأكل قيمة الدين تدريجياً، فإن الضغوط الانكماشية تزيد تكلفة وقيمة الدين. ويُعرَّف الدين بأنه أصل من قِبل مالكيه: الدائنين والمموِّلين العالميين، بمن فيهم مستثمرو الأسهم في القطاع الخاص. والأصول قيمة في حدّ ذاتها.. ولكن الديْن (أو القرض) هو أصل أيضاً، وله قيمة باعتباره مصدراً ل «الريع» على هيئة دفعات من الفوائد يتم دفعها بمرور الزمن. وأخيراً، فإن الديون (مثل الرهون العقارية للبنوك، على سبيل المثال)، مفيدة باعتبارها مكمّلاً مولّداً للدخل، حيث تتسبب في مزيد من الاقتراض أو الدين.
وتقول المؤلفة، إن سياسات التقشف القائمة على التقليص، تقليص الاستثمار العام، بينما القطاع الخاص مثقل بالديون، وضعيف، وتعوِزه الثقة بالمستقبل، وقد قلَّص الاستثمار. وبتخفيض الاستثمار العام في وقت ضعف القطاع الخاص، فإن الحكومات لا تبتر فقط نشاطات القطاع العام، بل تبتر أيضاً نشاط القطاع الخاص، وأرباحه وأجوره ودخوله وعائداته الضريبية. وهكذا، فإن التقشف يؤدي إلى مفاقمة المديونية، وتهديد الديْن الخاص للشركات والأسر والأفراد في الغرب، وكذلك للدول فيه.
والتقشف يعاقِب عملياً، البريئين من التسبب في الأزمة، أولئك المعتمدين على رخاء الدولة، بينما تزيد الضغوط الانكماشية قيمة الأصول التي يملكها المسؤولون عن الأزمة.
الأزمة المالية
ترى الكاتبة أن الساسة المسؤولين عن فرض سياسات التقشف لم يفرضوا فقط معاناة غير ضرورية وانزياحاً في وضع ملايين الناس، ومجتمعاتهم ودولهم. ولم يتسببوا فقط في ارتفاع الديْن العام. بل تسببوا في حقيقة الأمر، في خيبة الأمل من استقرار الديمقراطية في أوساط العاطلين عن العمل، والمعدمين في أوروبا والولايات المتحدة. فالتقشف والتواطؤ بين الساسة والقطاع الخاص، فتحا فضاءً رحباً للأحزاب السياسية الشعبوية اليمينية، مثل دونالد ترامب وحزب الشاي في الولايات المتحدة، والجبهة الوطنية في فرنسا، والفجر الذهبي في اليونان: وكانت هذه من بين العواقب الاجتماعية والسياسية للساسة الديمقراطيين الذين وضعوا سياسات تثري القلة، بينما تفقر الأغلبية، سياسات قائمة على مصالح البارونات اللصوص، وعلى النظريات المعيبة لعلماء اقتصاد «بائدين».
ما العمل؟
في الفصل الأخير من الكتاب، تتساءل الكاتبة: كيف نستطيع أن نعيد إلى ديمقراطيتنا المصلحة العامة المتمثلة في النظام المصرفي الحديث؟ وكيف نستطيع أن نتجنب مصادرة هذه المصلحة العامة في المستقبل، ونحن نتعامل مع تهديد تغير المناخ وانعدام أمن الطاقة؟
تقول الكاتبة، الإجابات التي اقترحها على النحو التالي: أولاً يجب على الجمهور أن يكوّن فهماً أكبر للكيفية التي يعمل بها نظام المال المصرفي. فالمعرفة قوية وتمنح القوة. والإيديولوجيا الاقتصادية المعيبة السائدة اليوم، سوف يضعفها الفهم الجماهيري الأوسع للنظام المالي. ومن المؤسف أننا لا نستطيع التعويل على جامعاتنا من أجل زيادة الفهم. ودوائر الاقتصاد في الجامعات محشوة باقتصاديين «كلاسيكيين» أو «كلاسيكيين جدد». وهؤلاء لا يملكون أساساً صلباً في النظرية النقدية التي تبنى عليها السياسات الملائمة، إضافة إلى ذلك، فإن أقسام الجامعات حافلة باقتصاديّي الاقتصاد الجزئي، الذين يدرُسون العمليات الاقتصادية بالتفصيل، ومنعزلة في كثير من الأحيان، ثم يبنون استنتاجات عن الاقتصاد الكلي بناءً على تلك العمليات.
ومع تدحرج الأزمة المالية العالمية في أنحاء العالم، يشتد الإخفاق الاقتصادي ويظل كثير من الاقتصاديين منفصلين عن نقاشات السياسات التي يمكن أن تشيع الاستقرار في الاقتصاد العالمي، وتخفف من المعاناة البشرية. ولا يزال كثيرون لا يفهمون كيف ولّد النظام المصرفي الخاص، ديوناً هائلة.. كما أن أرباب البنوك المركزية «حراس الموارد المالية للأمم» استسلموا هم أيضاً للانهزامية وتخلوا عن كل جهد لإعادة هيكلة النظام المصرفي العالمي.
لكن التسلح بالمعرفة والفهم ليسا كافيين. يجب أن نمضي إلى أبعد من ذلك. يجب أن نجدد شباب مؤسساتنا السياسية والديمقراطية، لأنها الوسائل التي بواسطتها يوافق المجتمع جماعياً وديمقراطياً على التغيير التشريعي والتنظيمي. ويجب أن ندرك أنه إذا تم إفراغ مؤسساتنا الديمقراطية من مضمونها عن طريق اللبرَلة والخصخصة، وإذا تم شراء ساستنا وتعيينهم في مجالس إدارات الشركات والمؤسسات المالية، وجُرّدوا من سلطات صنع السياسة، وسلطة تخصيص الموارد، فإن ذلك ليس من قبيل الصدفة، بل هو النتيجة المرجوّة من إجراءات رأس المال المالي، وحشد التأييد الذي يقوم به، وسلطته الغالبة علينا جميعاً. ولتحدّي عالم التمويل، يجب علينا أن ننخرط فيه، ونعيد بناء وتعزيز الأحزاب والمؤسسات السياسية الديمقراطية، وأن نشارك في النقاش السياسي وفي الانتخابات، وفي الجدل الصاخب والعلني حول القضايا ذات التأثير العميق على حياتنا.
وبوضع السياسات النقدية السليمة، يمكن ضمان أن يكون للمجتمع التمويل الذي يحتاج إليه لتحويل الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على الوقود الأحفوري، ونحو أشكال الطاقة المستدامة.
يكافح التعافي
تقول المؤلفة، إن تسع سنوات مرّت منذ أزمة أغسطس/‏‏آب 2007 المالية. ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد العالمي يكافح للتعافي من تلك الأزمة والفقاعات التي تغذت على الائتمان بسهولة (أي من دون تنظيم)، والتي انفجرت بعنف برفع المعدلات الحقيقية للفائدة. وبدلاً من الانتعاش، انداحت الأزمة ببساطة في أرجاء الاقتصاد العالمي. وكانت ذروتها في المركز، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ولكنها انتقلت بعد ذلك إلى أوروبا، ومنطقة اليورو بوجه خاص. ثم انتقلت الأزمة إلى الأسواق الناشئة، ولا سيما الصين. وقد عانت الاقتصادات الغربية أطول فترة إخفاق اقتصادي في تاريخ زمان السلم. ولم يطُل الإخفاق الاقتصادي على هذا النحو في الماضي إلاّ خلال فترات الحروب. ومع ذلك، بدلاً من أن تحاول الحكومات تصحيح اختلالات التوازن، بإعادة تنظيم النظام المالي، وقفت جانباً بدون حراك، بينما راحت فقاعة الائتمان العالمية تنتفخ بفعل عمليات البنوك المركزية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"