الأخبار المغلوطة عن العراق وفلسطين والكيان

05:23 صباحا
قراءة 5 دقائق

في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، ذكرت ال بي.بي.سي، أن ما يقدّر ب 50 ألف محتجّ عراقي موالين لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، قاموا بمسيرة ضخمة مناوئة للولايات المتحدة في بغداد. وكان الاحتجاج موجهاً ضد خطط لتمديد تفويض الأمم المتحدة لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، الذي ينتهي بنهاية هذا العام. وقد صاغ المتفاوضون العراقيون والأمريكيون اتفاقاً، لا يزال في حاجة الى الموافقة من قبل الحكومة العراقية. وردد المتظاهرون شعارات من قبيل اخرجوا أيها المحتلون!، وقالت ال بي.بي.سي معلّقة: وتلقى معارضة مقتدى الصدر المتعصبة للوجود الأمريكي، دعماً قوياً في صفوف جماهير غفيرة من عامة الشيعة - وكان ذلك تجسيداً ملموساً لتلك المعارضة.

وتعبير متعصب هو تعبير ازدرائي تستخدمه وسائل الإعلام للتدليل على رفضها له. وتصوّر التقارير الإخبارية الغرب، على أنه يتعرض بوجه عام للهجوم من قبل الإسلام المتعصب، ولكنّ أيّاً من الصحافيين الغربيين لم يصف العراق في يوم من الأيام بأنه يتعرض للهجوم من قبل المسيحية المتعصبة.

وكانت ال بي.بي.سي أيضاً، تواقة الى تأطير المعارضة للاحتلال بتعابير سياسية طائفية، مركزة على المعارضة الشيعية، والصدرية منها بوجه خاص. ولم تتطرق إلى ذكر الاستطلاع الذي أجرته ال بي.بي.سي ذاتها في شهر مارس/ آذار ،2008 مع شبكة إيه بي سي نيوز والذي أظهر أن 72% من العراقيين جميعاً يعارضون القوات المسلحة الأمريكية داخل الأراضي العراقية. كما وجد المسح كذلك أن 27% فقط يعتقدون أن وجود القوات الأمريكية يحسّن الوضع الأمني. وفي سبتمبر/ أيلول ،2007 وجد استطلاع آخر للرأي أن سبعة من عشرة عراقيين يعتقدون أن الفورة في عدد القوات الأمريكية في بغداد ومقاطعة الأنبار، فاقمت الوضع الأمني في تلك المناطق - وأعرب نحو نصف المستطلَعين عن رغبتهم في مغادرة قوات التحالف على الفور.

وال بي.بي.سي، بتركيزها على المعارضة الطائفية، وتجاهل أدلتها ذاتها، طمست الحقيقة المزعجة التي تقول إن أعداداً كبيرة من العراقيين يعارضون الاحتلال معارضة عميقة. والرأي العام العراقي - حسبما تروجه دعاية التحالف - شديد الأهمية في إرشاد السياسة الأمريكية البريطانية، ولذلك تكنَس هذه الأدلة وتُخفى عن الأنظار.

وهكذا تجاهلت وسائل الإعلام المطبوعة، تجاهلاً تاماً تقريباً احتجاجات 50 ألف إنسان. فذُكرت بصورة عابرة في مقالة لصحيفة التلغراف، وأشير الى عدد المتظاهرين في جملة من سطر واحد فقط، في صحيفة الاندبندنت. وفي المقابل، أُفرِدت ثلاث مقالات صحافية (اثنتان في صحيفة التايمز، وواحدة في صحيفة ايفننغ ستاندارد)، لتغطية قصة الكلب الضال، راتشيت، الذي عقد جندي أمريكي في العراق صداقة معه، وسُمح له بالانتقال الى الولايات المتحدة حيث تم جمع شمله مع صاحبه.

يكمن تركيز مفضوح بصورة مشابهة، وراء التقرير الذي أذاعته ال بي.بي.سي يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول، عن، أم أنس - وذلك اسم مستعار لها - التي تبلغ من العمر 18 عاماً، والتي تخرجت للتوّ من برنامج لتدريب المفجّرات الانتحاريات في غزة.

وقد أوضح المذيع بول وود كيف أن المتدربات يجري تحضيرهن لمهاجمة الجنود الإسرائيليين الغزاة. ولكنه سأل أم أنس، إن كانت ترغب في تفجير مطعم مملوء بالمدنيين؟ فكان جوابها مثيراً للذعر: الجنود الإسرائيليون، بطبيعة الحال... هم الهدف الأسهل عندما يأتون الى هنا، فلسطين للفلسطينيين فقط. ويجب أن نطرد الإسرائيليين بأي وسيلة تتاح لنا.

والمفجّرون الانتحاريون، يحبون بطبيعة الحال، التغطية الإعلامية التي تتيح لهم التعبير عن وجهات نظرهم، كما أن ال بي.بي.سي، تواقة الى أن تبرهن على شجاعتها من خلال عرض مثل هذه التقارير، بل تستطيع أن تدعي، أيضاً، أنها تؤدي من خلال هذه التقارير خدمة إعلامية متوازنة فها هي تتيح للمفجّرين الانتحاريين أن يعرضوا قضيتهم.

ولكن التحامل يكمن في الطبيعة المنحازة الى طرف واحد في هذه التغطية الإعلامية. إذ كان يمكن كتابة تقرير مماثل عن الجماعات اليهودية المتطرفة في إسرائيل، مثل جماعة جبل الهيكل المتعصبة، التي تسعى الى تفجير المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، لإعادة بناء الهيكل اليهودي. ولكن متعصبي جبل الهيكل لا يقابلهم أحد من الصحافيين مثل بول وود.

والسبب هو أن ال بي.بي.سي، شأنها شأن غيرها من وسائل الإعلام، تتحمس لتأكيد الخطر الذي يشكله الإرهابيون الفلسطينيون المتعصبون. أمّا الذين تصفهم وسائل الإعلام هذه ب المتطرفين الإسرائيليين - وهم فئة تحظى بالقبول - فيميلون الى ألا يلفتوا نظر وسائل الإعلام.

الميل الى دعم قضية حليفة الغرب إسرائيل واضح كذلك في التغطية الإخبارية ل أعمال الشغب في مدينة عكا الواقعة في شمال فلسطين. فقد ذكرت صحيفة الجارديان في الأسبوع الماضي، أنه تم اعتقال 78 شخصاً منذ بدء القلاقل قبل أكثر من أسبوع، في يوم الغفران، أقدس الأعياد اليهودية. وقالت الصحيفة موضحةً: بدأ العراك عندما قاد توفيق جمال، من عرب إسرائيل، سيارته الى داخل منطقة بورلا، وهي ضاحية لليهود والعرب الفقراء، بعد بدء صيام يوم الغفران الصارم، والذي يتضمن كذلك حظراً على قيادة السيارات والتدخين. وقد هاجم الشبان اليهود السيارة، فاحتمى جمال وابنه وأصدقاؤه داخل بيت أحد الأقارب، واستدعوا الشرطة.

والغريب أن الشرطة اعتقلت جمال في اليوم ذاته. ووجهت اليه تهمة انتهاك الحساسيات الدينية، وقيادة السيارة بسرعة زائدة، وتعريض حياة الآخرين للخطر - مع أن حياته هو، هي الوحيدة التي كانت في خطر على ما يبدو. وأُطلق سراحه بعد يومين، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله. وقد علّق أحمد الطيبي، العضو العربي في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قائلاً: لا أدري إن كانوا سيبدأون باعتقال اليهود الذين يأكلون ويشربون في شهر رمضان.

وقد ذكر الصحافي المقيم في إسرائيل، جوناثان كوك، أن التعليقات التي نقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية عن الجماعات اليهودية المحلية، تشير الى أن عناصر داخل عكّا تحاول إرهاب الفلسطينيين لحملهم على الرحيل عن المدينة المختلطة. ولكن في المرات النادرة التي قام الإعلام الغربي فيها بتغطية هذه الأحداث، تم تصويرها على أنها مجرد صدامات بين جماعات محرومة، ولا تدلّ إلاّ على الإحباط داخل المدينة القديمة. ولكن العامل المهيمن، وهو الصهيونية ومهمتها المتمثلة في تهويد المناطق العربية، مستبعد من التغطية الإعلامية. ويوضح كوك قائلاً لأن الصهيونية لا تُعتَبَر إيديولوجية غريبة، تحظى بدعمنا الرسمي في الغرب. وهكذا، فإن كل منتجات هذه الإيديولوجيا - ومنها الدولة الإثنية، العنصرية، وحملات التهويد؛ والاحتلال في زي الأمن - تُعتَبَر مقبولة، بل ضرورية. وكل تلك الأمور تمرّ من دون مساءلة. وفي النتيجة، تغدو غير ظاهرة في التغطية الإعلامية.

كان الشاعر السوفييتي، يفجيني يفتوشنكو، قد أشار مرّة إلى أنه يَحدُث في المجتمعات الاستبدادية، أن تُستَبدَل الحقيقة بالصمت، والصمت كِذْبة.

ولكن الشيء ذاته ينطبق على المجتمعات الديمقراطية في ظاهرها فقط. وكما كان جورج أورويل يدرك جيداً، من الخطأ ربط السيطرة على الفكر بأسلوب الأخ الأكبر، بأنظمة السلطة القائمة على النمط السوفييتي. فعندما تتحكم قبضة حديدية في ما يفعله الناس، فليس من المهم كثيراً ما يفكرون فيه. ويعود ذلك بالتحديد، الى أن عنف الدولة لم يَعُدْ خياراً مطروحاً للسيطرة الاجتماعية في دول مثل بريطانيا وأمريكا بحيث غدت الدعاية - أي استبدال الحقيقة بالصمت - أشد حسماً.

* محرر مشارك لموقع ميديا لنس، لرصد التضليل الإعلامي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"