غزة والإعلام البريطاني

05:06 صباحا
قراءة 5 دقائق

في سنة 1992 أطلق المحلل السياسي نعوم تشومسكي تعبيراً نادراً يصف فيه الحنق الذي لا بدّ أن يشعر به في كثير من الأحيان. ففي معرض تعليقه على ردّ الفعل الغاضب الذي أبداه الصحافيون الأمريكيون على التطهير العرقي في البلقان، قال: لا أدري لماذا لا يغرقون في بحر ما يعيبون على غيرهم ارتكابَه، وهم ليسوا منه براءً.

ولعلّ دهشة تشومسكي الآن أكبر، إزاء رد فعل وسائل الإعلام على مذبحة الفلسطينيين الشاملة في غزة؛ وهي العمل الفظيع الذي ما فتئ يوصَف من قبل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) هذا الأسبوع، حتى بعد أن تجاوز عدد الضحايا الأبرياء 1000 ضحية، بأنه هجوم إسرائيل ضدّ حماس.

فلماذا تستخدم ال بي بي سي هذا الوصف من دون سواه؟ الجواب بطبيعة الحال، هو أنه الوصف الذي تطلقه الحكومات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية على الهجوم. وهو جزء من التعمية الإعلامية القياسية على الجرائم التي ترتكبها بريطانيا وكبار حلفائها. ويُقصَد منه ان نفهم أنّ إسرائيل لا تستهدف سوى مقاتلي حماس - أمّا مئات القتلى من النساء والأطفال، فهم ضحايا عَرَضيّون، سقطوا ضمن الأضرار المصاحِبة.

ففي نظر إعلامنا السائد، يُناط تحديد معالم الواقع بالآخرين- وهم الناس في السلطة. ولكنْ مَن المستهدَف بالهجوم، كما توحي به الدلائل على الأرض؟

في الثالث عشر من يناير/ كانون الثاني نشرت صحيفة اندبندنت كاثوليك نيوز تفاصيل هجوم وقع أواخر الأسبوع الماضي على مركز طبي في غزة تابع لمنظمة كاريتاس انترناشيناليس الخيرية. وقد دُمِّر المركز تدميراً تامّاً بمعداته الطبية التي تساوي 10 آلاف دولار، بقنابل مقاتلة إسرائيلية من طراز اف-16، مصنوعة في الولايات المتحدة. وكما قال، كاهن أبرشية غزة، مانويل مسلّم، على الهاتف متحدثاً من بيت حانون: يخيّم الذعر هنا في كل مكان. والقنابل التي يُسقطها الإسرائيليون تمزّق الناس وتخترق المنازل، بالمعنى الحرفي للكلام.

وذكر مسلَّم أنه لا يوجد هنالك ماء، ولا يكاد يوجد وقود للطبخ. وأضاف: لقد جعل العدوان الإسرائيلي هؤلاء الناس يعيشون كالحيوانات ومدرستنا حديقة للحيوانات. ثمة جثث ملقاة في الشوارع. والعيادات تجري العمليات الجراحية على الأرض. ولا مكان لتضع النساء الحوامل فيه. وقد أُرديَتْ سيدة حامل قتيلة وهي في طريقها الى عيادة تضع فيها.وحاول المسعفون إنقاذ حياة الجنين، ولكنه قضى نحبه مع أمّه.

وبعد يوم من الهجوم على مركز كاريتاس، دمّرت مقاتلة إسرائيلية نفاثة عيادة صحية تُقَدّم رعاية مجانية بتمويل من منظمة المعونة المسيحية. وعلّق ناطق باسم تلك الوكالة قائلاً: كان عدد كبير من النساء قد أحضرْن صغارَهنّ الرُّضَّع وأطفالهن للعلاج. ولكن العيادة أصبحت الآن رُكاماً.

ولم يَرِدْ ذكْر تدمير عيادة كاريتاس، إلا في مقالة يتيمة في الصحافة البريطانية كلها. كما أن قصف مركز المعونة المسيحية لم يُذْكَر إلا في مقالتيْن.

وقد كتب المؤرخ الإسرائيلي، آفي شْليم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة اكسفورد، في صحيفة الجارديان، الأسبوع الماضي: إنّ وصية العَيْن بالعيْن، الواردةَ في الكتاب المقدّس، بربرية الى درجة كافية. ولكن هجوم إسرائيل الجنوني على غزة، يبدو أنه يتّبع منطقَ العيْنِ بالرِّمْش.

تذكُر مجموعة الحق، وهي مجموعة حقوق قانونية فلسطينية، ان 80% من الشهداء الفلسطينيين مدنيون. وتقول منظمة الصحة العالمية، ان 40% منهم على الأقلّ أطفال. وتوحي هذه الأرقام، وجَبَل من الأدلة غيرها، بأن هذا ليس مجرد هجوم ضد حماس.

وفي المقابل، لم تَصِفْ وسائل الإعلام البريطانية، الهجوم الصربي على كوسوفو سنة 1999 بأنه هجوم على جيش تحرير كوسوفو. بل وُصِف بأنه حلّ نهائي، وإبادة جماعية تستهدف المدنيين في كوسوفو. وفي مادة أذاعتها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، في مايو/ أيار ،1999 قال توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني وقتئذٍ: ليس من المبالغة القول ان ما يحدث في كوسوفو هو إبادة جماعية عرقية.

وادّعى بلير ذلك على أساس أن 2000 شخص كانوا قد قُتِلوا منذ الصيف السابق. وعلى الرغم من أن أغلبية هؤلاء قد قُتِلوا على أيدي جيش تحرير كوسوفو، فإن بلير حرّض الجماهير على الاعتقاد بأن الصرب هم وحدهم الذين يقع عليهم اللوم. ونتيجةً لشهور من مثل هذه الدعاية، امتلأت وسائل الإعلام بدعوات متكررة الى التدخل العسكري. وبينما كان حلف الناتو يقصف الصرب بقنابله، كتب اندرو مار، الذي يعمل الآن مع هيئة الإذاعة البريطانية ال بي بي سي، في صحيفة الابزرفر: أريد ان أطرح خيار مكبث: وهو أننا غارقون في الدم، الى درجة تحتّم علينا أن نمضي قُدُماً، فنغرق فيه أكثر. وإذا كنّا نعتقد حقّاً بأنّ الزعيم الصربي، ميلوسوفيتش شخصية سيئة، وخطيرة، ومثيرة للقلاقل الى هذا الحدّ، فإنه يجب علينا أن نصعّد حربنا تدريجياً. وعلينا ان نقول الآن اننا ننوي إدخال قوات برية.

وكتب الصحافي ديفيد آرونوفيتش في صحيفة الاندبندنت: هل هذه القضيةُ، قضيةُ ألبان كوسوفو، تستحق المعاناة من أجلها؟ وهل أقاتل، أو (بكلام أكثر واقعيةً) أؤيّد احتمال سقوط بعض أفراد عائلتي دفاعاً عنها؟. وجوابه هو: أعتقد ذلك.

والمذهل في الأمر، ليس فقط ابتلاء معظم وسائل الإعلام البريطانية بحمّى الحرب هذه سنة ،1999 بل هو خلوّ وسائل الإعلام من أي أثر لذلك ردّاً على ما يحدث في غزة الآن. وقد كتبْتُ هذا الأسبوع الى آرونوفيتش، وسألته إن كان راغباً في القتال من أجل الناس في غزة، فردّ قائلاً: إذا كان سيتم تشكيل قوة دولية لحفظ النظام ضمن تسوية المعمعة الإسرائيلية/ الفلسطينية، التي ما فتئت منذ 60 سنة على الأقل تسبب مثل هذه الخسائر في الأرواح، فإني أعتقد عندئذٍ بأنها تستحق القتال من أجلها. ولكن آرونوفيتش لم يقترح سنة ،1999 أعمال شرطة وحفظ نظام- بل كان يؤيد حرباً شاملة على صربيا. رغم أن الإسرائيليين، خلال أقل من ثلاثة أسابيع، قَتلوا أكثر من ألف شخص- أي نصف العدد الذي ادعى بلير ان الصرب قد قتلوهم في تسعة أشهر. كما أنّ الصراع الحالي هو صراع من جانب واحد: فلم يسقط حتى الآن سوى 3 قتلى مدنيين إسرائيليين و10 جنود (4 منهم كانوا ضحايا نيران صديقة من جيشهم هم). أمّا جيش تحرير كوسوفو فقد قتل مئات من الصرب. وقبل عدوان هذا الشهر، كان 14 إسرائيلياً قد قُتِلوا بصواريخ معظمها مصنوع محلياً، تم إطلاقها من غزة على مدى السنوات السبع الماضية، مقابل 5 آلاف فلسطيني استشهِدوا خلال غارات إسرائيلية. ولا مجال هنا لوصف معاناة السكان الفلسطينيين نتيجةً للحصار الإسرائيلي، و60 سنة من القمع الإسرائيلي- والبؤس الذي تتضاءل أمامه معاناة السكان الكوسوفيين سنة 1999.

وبينما أطلق الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير العنان لنفسيهما، وتحدّثا عن جرائم مروّعة وإبادة جماعية سنة ،1999 لم يكن لدى الرئيس الأمريكي المنتخب، باراك اوباما، والرئيس جورج بوش ما يقولانه بشأن غزة. وفي هذا الأسبوع، علقت وزيرة الخارجية الأمريكية المرشحة، هيلاري كلينتون، بمجرد القول: إن الرئيس المنتخب، وأنا، نتفهم، ونتعاطف بعمق مع رغبة إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في ظل الظروف الراهنة، والتحرر من قصفها بصواريخ حماس.

لقد دار نقاش مستفيض بشأن لون اوباما: فهو ليس أبيض، ولكن أهو أسود حقّاً، أم أسمر؟ وعلى الصعيد السياسي، أهو ليبرالي أبيض، أم أخضر؟ يوحي تعليق هيلاري كلينتون بأنه سرعان ما سيُفصِح عن نفسه، ويكشف أنه رمادي غامق، كلون خليط النحاس والخارصين، الذي كانت تُصنع منه المدافع.

* محرر مشارك في نشرة ميديا لنس لرصد التضليل الإعلامي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"