من يونس إلى فنزويلا

01:15 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*

المشكلة الأساسية التي تعانيها فنزويلا اليوم هي التمويل خاصة وأنها لا تسدد الديون السابقة، فمن يقرضها؟ لم تستطع فنزويلا تسديد الديون المستحقة السابقة من مجموع 60 ملياراً ما يعمق الأزمة ويؤجل الحلول.
حلم «محمد يونس» حامل جائزة نوبل للسلام لسنة 2006 بعالم ينعدم فيه الفقر والبطالة والتلوث البيئي كان كبيراً لكنه ليس نظرياً، بل قابل للتطبيق مع الوقت. هو من أشد المنتقدين للنظام الاقتصادي والمالي العالمي الذي يزيد فجوة الدخل ويرفع البطالة ويسيء إلى البيئة ويؤدي إلى التطرف السياسي الناقم. يقول إن العالم يحتاج إلى نظام جديد مبني على الأخلاق والتضامن الاجتماعي وبعيداً عن الجشع والربح الشخصي من دون حدود. محمد يونس مصرفي الفقراء في بنجلادش حول اهتماماته من إقراض الفقراء وخاصة النساء إلى اقتراح خلق ما سماه بشركات التضامن الاجتماعي. هدف يونس إلى إظهار الجانب الخلَّاق في الإنسان بحيث لا يبحث المواطن عن وظيفة أو عمل بل يخلقهما عبر الاستثمار في الأعمال. يقول إن المال يسبب السعادة، لكن مساعدة الآخرين تخلق سعادة أكبر وأقوى وتدوم أكثر.
وقف يونس بوجه الاقتراح الذي يقول إن تأمين دخل مؤكد للمواطن يقتل الفقر ويمنع الجوع. قال إن ما يقتل الفقر هو العمل وخلق المؤسسات التي تؤمن الازدهار والنمو للمجتمع ككل. أين نحن اليوم من أحلام يونس؟ الأهداف لم تتحقق أي الفقر ما زال منتشراً عالمياً، والبطالة متفاقمة خاصة عند الشباب وإحصاءات العالم العربي تشهد على ذلك، كما أن التلوث يعم العالم في غياب سياسات تنفيذية واضحة تعالجه. هل يحلم يونس؟ تشير الوقائع إلى تأثير كبير من قبله بمجرى الأمور في المؤسسات الدولية وفي الدول التي تحكمها قيادات مسؤولة. ألوف رجال وسيدات الأعمال يطبقون نظرياته الاجتماعية من الهند إلى ألمانيا مروراً بفرنسا إلى كولومبيا. شركات تأسست لضرب الفقر، تحسين الطبابة والتعليم، الحفاظ على البيئة مع تحقيق أرباح متواضعة للاستمرار.
كيف يمكن الكلام عن تحقيق أهداف يونس الثلاثة الكبيرة دولياً عندما نرى دولة غنية كفنزويلا تغرق في الفقر والبطالة والتلوث أياً كانت الأسباب. النتائج واضحة وغير قابلة للشك. قبل تفاقم الأوضاع السياسية والإدارية أي في 2012، كان الناتج الفردي 13600 دولار أمريكي وكان الاقتصاد ينعم بالغنى الطبيعي والإنتاجي. تنتج فنزويلا الذرة والأرز والموز والقهوة والعديد من المنتجات الحيوانية. في الصناعة، كانت متطورة في الآليات والطبابة كما في مختلف أنواع المعادن كالحديد والفولاذ. دورها الإنتاجي في قطاع الطاقة معروف ومؤثر جداً. قطاع الخدمات شكَّل 61% من الناتج وكان شديد التنوع والتطور. كانت نسبة النمو 4,2% في 2011، 5,6% في 2012 و 1,6% في 2013. الإنتاج الكهربائي كان مميزاً وكانت فنزويلا في المرتبة 28 عالمياً، في المرتبة 24 عالمياً في خطوط الهاتف الثابت و 34 في الخلوي. في قطاعات البنية التحتية، كانت فنزويلا رائدة خصوصاً في النقل بمختلف أنواعها. في القطاعات الاجتماعية من التعليم إلى الصحة وغيرها، كانت فنزويلا في طليعة دول أمريكا اللاتينية. أتت السياسة بدءاً من «شافيز» واليوم مع «مادورو» لتقلب النتائج رأساً على عقب.
فنزويلا إذا كانت من أغنى وأنجح الاقتصادات الأمريكية اللاتينية حتى بدأ الانحدار القاتل. الأسباب معظمها داخلية تتلخص في سوء الأداء الإداري والسياسي وفي انخفاض أسعار النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد. كانت إدارة الدولة سيئة وربما ارتكزت على أحلام سياسية انتهى وقتها مع زوال الاتحاد السوفييتي. حصل هذا الانحدار في وقت تعافت خلاله الاقتصادات الرئيسية الأخرى بل نمت بخطى ثابتة بعد أزمة 2008 العالمية. المنطقة الأمريكية اللاتينية نمت كمجموعة 1,7% في 2017 بعد سقوط 1% في سنة 2016. الأوضاع تتحسن للجميع إلا لدولة واحدة كان من المفروض أن تكون مزدهرة. في سنة 2017، حققت الأرجنتين نمواً بلغ 2,5%، البرازيل 0,7%، تشيلي 1,4% لكن فنزويلا سقطت 12% وسيستمر السقوط هذه السنة مع 6%. تعاني فنزويلا أزمة غذائية معيشية قاتلة أي لا تتوافر المواد الغذائية في الأسواق والحدود مفتوحة أمام المواطنين الهاربين إلى السلم والأمل. 9 من أصل 10 أسر تقول إنه ليس عندها غذاء كافٍ وكأننا نتكلم عن أفقر الدول الآسيوية والإفريقية. هنالك تسابق في المحال التجارية بين المواطنين على شراء الغذاء والمواد التنظيفية التي فقدت جميعاً. 10 ملايين شخص يستغنون عن وجبة طعام كل يوم لعدم قدرتهم المالية على تأمينها. النتيجة فقدان وزن بمعدل 9 كلغ للشخص الواحد أي ضرب السمانة قسراً.
يقول صندوق النقد الدولي إن فنزويلا لا تتعامل معه بمهنية وحرفية كغيرها من الأعضاء ولا تعطي الإحصاءات المطلوبة تأميناً للشفافية والاستمرارية في العلاقة. لا شك أن فنزويلا لم تحصل على المساعدة والعطف والتعاون الذي حصلت عليه مثلاً اليونان لأن مشاكل فنزويلا هي خاصة داخلية وليست مستوردة. مشاكل اليونان نابعة من سوء الإدارة حكماً، ولكن أيضاً من الشروط الأوروبية المفروضة عليها منذ انضمامها الطوعي إلى منطقة اليورو. تحتاج فنزويلا اليوم إلى «تسيبراس» ينقذها من ورطتها ويعيد التعاون الدولي إليها. كيف يمكن وصف الأوضاع الحالية في فنزويلا اليوم؟
أولاً: أسعار النفط، أي إذا عادت إلى مستويات العقد الماضي يتعافى الاقتصاد من تلقاء نفسه ولكن هذا غير متوقع حتى في أفضل السيناريوات العالمية. إذ لا يمكن للدولة أن تتكل على إيرادات نفطية كبيرة أقله قريباً. انهارت أسعار النفط كما حصل تماماً في القطاعات الأخرى وانهارت الإنتاجية بسبب غضب الشعب وفقدان الجو الإنتاجي العام. بلغ العجز المالي 7% من الناتج والتمويل متعثر داخلياً وخارجياً.
ثانياً: هنالك خضات في الشوارع أحدثت 120 قتيلاً مؤخراً ولا شيء يدل على توقف الاحتجاجات في ظل رفض «مادورو» الحوار مع المعارضة أو إجراء انتخابات نيابية شفافة وليس كما حصل سابقاً. ارتفعت نسبة البطالة من 8,7% في سنة 2014 إلى 28,2% حالياً وهذا لا يمكن احتماله في أي اقتصاد.
ثالثاً: انحدر الاقتصاد 30% خلال السنوات الأربع الماضية مع تضخم مخيف قارب 70% وربما وصل الآن إلى 100 % تبعاً لصندوق النقد. سقط النقد لكن هذا لم ينعكس على الصادرات التي تعاني كل شيء أكثر من القيمة بالبوليفار. انهار الاحتياطي النقدي من 30 مليار دولار في 2012 إلى 10 مليارات اليوم. هنالك عقوبات قاسية وضعت على الدولة آخرها وأهمها من الولايات المتحدة التي تستورد في الظروف العادية ثلث الإنتاج النفطي للدولة. الاستثمارات تنخفض وهذا ليس مفاجئاً في دولة تنهار بسرعة.
رابعاً: تحتاج فنزويلا اليوم إلى نحو 30 مليار دولار سنوياً من الدول المانحة لتصحح أوضاعها الإنتاجية. من يمنحها؟ لا وجود لمتبرعين. انهارت الواردات 80% خلال السنوات الخمس الماضية مما يفسر فقدان السلع في الأسواق. المواطن غير قادر على الشراء ويتذمر دون أن يشعر أن أبواب الإنقاذ فتحت.
خامساً: المشكلة الأساسية التي تعانيها فنزويلا اليوم هي التمويل خاصة وأنها لا تسدد الديون السابقة، فمن يقرضها؟ لم تستطع فنزويلا تسديد الديون المستحقة السابقة من مجموع 60 مليار ما يعمق الأزمة ويؤجل الحلول. انهيار أسعار السندات إلى 30% من قيمتها خاصة وأن الديون التي ستستحق مستقبلاً كبيرة خاصة في 2020. المدهش أن الرئيس «مادورو» أعلن أنه يريد إعادة جدولة الديون الخارجية، علما أن المقرضين لن يكونوا راضين أبداً. لكن من الممكن أن يتعاونوا معه كما فعلوا مع اليونان بحيث يحصلون قسماً من ديونهم أفضل من لا شيء. فنزويلا في وضع لا تحسد عليه والفرج غير قريب.

* خبير اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"