التسامح مع الماضي

02:49 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

القارئ المولع بالتاريخ يجد أمامه الكثير من الوقائع والأحداث وحياة الشخصيات التي يناقشها الباحثون بعقل مفتوح، وعبر رؤى لا يدعي فيها أحدهم الوصول إلى رأي علمي قاطع، وهذه النقاشات لا تقتصر على فضاء فكري محدد، ولكنها تمتد إلى حقول عدة، بمعنى أننا نجد أحدهم يناقش في الأدب مثلاً شخصية شكسبير، وهل كانت موجودة بالفعل أم لا؟ ومن المخترع الحقيقي للطباعة؟ وبرغم أن التاريخ المعروف أو الشائع في الكتب التعليمية وبين الناس يجزم بوجود الشاعر الإنجليزي الأهم، ويؤكد كذلك أن جوتنبرج هو مخترع الطباعة، إلا أن البحث الأكاديمي لم يقل كلمته الصارمة بعد.

تزداد سخونة هذه النقاشات إذا تطرقت إلى السياسي، أو إلى الراهن، أي الذي لا تزال تداعيات وقائعه طازجة، مثل من قتل جون كينيدي؟ أو كما يفرد بول أرون في كتابه «ألغاز تاريخية محيرة» فصلاً للإجابة عن سؤال: هل كان جورباتشوف جزءاً من انقلاب 1991؟ لا يصل أرون إلى رأي قاطع وإن كان يميل إلى الإجابة بنعم.

يثير الحوار حول هذه القضايا الكثير من الملاحظات تتعلق بحدود التاريخ، وحرية إبداء الرأي في الماضي، وقدرتنا على إدراك الحدث بوقائعه وقواه الفاعلة.

في الثقافة العربية بوجه عام، وعند معظم مؤرخينا، يعتبر الحدث التاريخي هو الذي انتهى تماماً بكافة آثاره، والمفارقة أن تاريخنا «المعاصر» أو «الحديث»، مع خلاف أيديولوجي حول المصطلحين، في العديد من الأدبيات بدأ بصدمة مدافع نابليون، أي بعلاقتنا منذ أكثر من قرنين بالغرب، وإذا فتشنا في هذه الأدبيات بعمق سنجد حرب تكسير عظام بين مختلف المؤرخين حول مفاصل تلك الفترة الزمنية، وفقاً للرؤية والتوجه، وهي حرب تعكس رؤيتهم للحاضر لا الماضي، ولكن الأهم أن هذا الحاضر يمتد إلى مئتي عام، لم نستطع خلالهما تحويل الواقعة التاريخية إلى ماض، نختلف حوله بصدر رحب، والوضع أكثر تعقيداً إذا توغلنا في ذلك الماضي إلى مراحل أبعد، أي أن العرب بالفعل يعيشون التاريخ بأكمله كأنه راهن تختلف حوله القوى السياسية والفكرية، وأن التعريف السابق للحدث التاريخي مجرد تعريف مدرسي، فلا حدث انتهى بالنسبة إلينا.

هذا الوضع يعبر عن معضلة في وعينا بالزمن، فالماضي يتحكم في الحاضر، وربما المستقبل أيضاً، ويؤشر كذلك إلى عجزنا عن التحرك إلى الأمام لنتخلص من أسر حدث انتهت وقائعه، ورحل عن دنيانا أبطاله، ويفسر حالة التشنج المميزة لنقاشاتنا السياسية والفكرية، التي تهيمن عليها مفردات التخوين والتجهيل.

إن من لا يستطيع التسامح مع الماضي يعجز بالتأكيد عن التسامح مع الحاضر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"