عادي
جوليس باستين رسام القرية الفرنسية

«القش».. لوحة تتغنى بشاعرية الريف

15:12 مساء
قراءة 4 دقائق
جوليس باستين

الشارقة: عثمان حسن

عُرف الفنان الفرنسي جوليس باستين لوباج (1848 - 1884) بارتباطه الوثيق بمناظر الطبيعة، ذلك الأسلوب الفني الذي ظهر في المرحلة اللاحقة للحركة الواقعية من أعماله الشهيرة، وهي كثيرة؛ واحدة بعنوان (جوان آرك) وهي موجودة في متحف متروبوليتان في مدينة نيويورك، ولوحة «هايلز» أو «القش».

ولد باستين لوباج في قرية «دامفيلرز»، وقضى طفولته هناك. كان والده مزارعاً، وكان يمتلك كرماً من العنب يساعده على عول أسرته، أما جده فكان هو الآخر قروياً ولديه حديقة تحتوي على أشجار الفاكهة من التفاح، والكمثرى، والخوخ. كان باستين لوباج يحب الرسم في صغره، وقد عزز والداه هذه الموهبة من خلال شراء مطبوعات من اللوحات ليقوم بنسخها، حيث كان والده أيضاً رساماً موهوباً.

تلقى باستين لوباج باستياج تدريبه الرسمي الأول في مدينة «فردان»، ومدفوعاً بحبه للفن ذهب إلى باريس في عام 1867، حيث تم قبوله في مدرسة الفنون الجميلة تحت إشراف الفنان كابانيل. حصل على المركز الأول في الرسم، لكنه قضى معظم وقته يعمل بمفرده، لم يواظب على حضور البرامج الدراسية كما ينبغي، ومع ذلك أكمل ثلاث سنوات في المدرسة. خلال الحرب الفرنسية البروسية التي اندلعت في عام 1870 حارب باستين لوباج وأصيب، وبعد الحرب قرر أن يعود لمنزله ليرسم القرويين، وليتسنى له أن يتعافى من جراحه.

في عام 1873 قام برسم جده في الحديقة، وهو عمل من شأنه أن يحقق للفنان نجاحه الأول في صالون باريس، وفي تلك الفترة تسنى له أن يعرض أعماله الأولى في الصالونات الباريسية بين 1870 و1872، ولكنها لم تجذب أي اهتمام، في عام 1874 أنجز رسومات شخصية أشاد بها النقاد وحصل على ميدالية من الدرجة الثالثة. كما عرض لوحة (أغنية الربيع) وتمثل فتاة قروية تجلس على ربوة في قرية وتحيط بها حوريات من الخشب.

كان عام 1875 فاصلاً في حياته الفنية، من خلال بورتريه يصوّر فتاة صغيرة رسمها تبعاً لأسلوب الفنان هانس هولباين. في ذات العام احتل المركز الثاني في مسابقة روما بلوحة (ظهور الملائكة للرعاة)، وعرض مرة أخرى في معرض «يونيفرسيل» في عام 1878.

أنجز باستين لوباج مجموعة من اللوحات التي أرسلها لتعرض في أحد الصالونات الباريسية في 1877 ومعظمها تصور حياة الفلاحين ومنها لوحة (لُو فوان) بالفرنسية، وتعني «القش»، وقد أشاد النقاد والجمهور على حد سواء بهذه اللوحة الموجودة الآن في متحف «أورسيه»، وحصل على مكانته بوصفه واحداً من أوائل الرسامين في مدرسة الطبيعة.

توالت نجاحات باستين لوباج من خلال العديد من البورتريهات المهمة ومنها صورة (سارة برنهارد -1879)، وفازت بوسام جوقة الشرف. في عام 1879 كلف برسم أمير ويلز. وفي عام 1881 رسم (المتسول) و(ألبرت وولف)، وفي 1882 (لو بير جاك) و(الحب في قرية 1885).

*تحفة

أنجز باستين لوباج لوحة «القش» في 1877، وهذه اللوحة وُصفت بأنها تحفة طبيعية في الرسم، وقد صور الفنان من خلالها وبقوة ملامح الريف الفرنسي، حيث تظهر شابة تجلس في مقدمة الصورة، بجانبها ينام رجل فقد قدرته على التركيز فاستسلم للنوم العميق، وهذا المشهد مستوحى من قصيدة كتبها الشاعر والروائي أندريه ثوريه (1833 - 1907) صديق باستين لوباج، وثوريه هو ابن قرية «لورين»، وهي منطقة ثقافية وتاريخية في شمال شرق فرنسا، سُميت باسم الإمبراطور لوثير الأول، والشاعر ثوريه معروف باحتفائه بالطبيعة التي جسّدها في كثير من قصائده الغنائية، وقد استوحى باستيان لوباج لوحة «القش» من قصيدة تقول كلماتها:

عند الظهيرة... تستحم المروج بالضوء.

على كومة من الأعشاب الندية تترك فضلاتها،

ينام الحاصد وهو قابض بيديه على صدره،

يجلس بجانبه ميبسة التبن،

تلك الحالمة، بعينين مفتوحتين، الفتاة الثملة

من الرائحة الندية التي تزفر من التبن.

اختار باستين تكويناً بإطار أكثر إحكاماً للشخصيات عن طريق رفع خط الأفق إلى أعلى، ويظهر في اللوحة القش المتكسر،الذي يعطي اللوحة عنوانها، ومن المثير للدهشة أن الرسام استخدم طريقتين مختلفتين في هذه اللوحة: الأولى دقيقة ومفصلة، تصف الشخصيات وتعبيراتها وأزياءها، بينما الأخرى أكثر إيحاء، حيث تنقل أجواء اليوم، وتضع المتفرج في عمق المساحة التي يصورها المشهد التصويري.

يرسم الفنان الشابة في ثلاثة أرباع المشهد، تشي ملامح وجهها المتعب بتعبيرات فتاة مصابة بالدوار، وواقعة تحت تأثير جهد هائل من التعب والإجهاد، شاردة تجلس على العشب، بظهر مقوس، وذراعين ممدودتين ومسترخيتين على تنورتها الخشنة القماش، ساقاها متباعدتان بلا اكتراث، يظهر الرسام صورة حذائها البالي، وكل ما له صلة بهذا المشهد الريفي يظهر عند الفنان بطريقة صادقة، وقريبة من واقع الفلاحين، الذين يغطيهم رماد الحقول، حيث يحرص على رسم التفاصيل بدقة متناغمة لا تخفي حياة هؤلاء البسطاء.

*شهادة

هل يمكن اعتبار لوحة «القش» شهادة تاريخية وفية عن زمن إبداع باستين؟ في التوثيق التاريخي لنقاد الفن المعاصرين تعد هذه اللوحة شهادة حية على تصوير حياة الريف في زمن هذا الفنان؛ فهو عندما قرر معالجة تمثيل مشهد قريته من خلال هذه اللوحة كان لديه خبرة سابقة في الرسم تجاوزت العشر سنوات، وكان قد حصل على تكريم العديد من الجهات والأوساط الفنية في باريس كفنان مدهش في رسم الشخصيات البارزة والموضوعات التاريخية التي جلبت له الاعتراف. لكنه مع ذلك تخلى تدريجياً عن هذه الموضوعات لصالح عالم أبسط، عالم الفلاحين، الذي كان يعرفه جيداً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3p5nwjt7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"