عادي
قراءات

فلسفة المشي.. أدباء انتعلوا الريح

23:41 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

يقدم كتاب «المشي فلسفة» لفريديريك غرو (ترجمه إلى العربية سعيد بوكرامي) جوهر فلسفة المشي ضمن سلسلة من التأملات، ليصبح المشي عملاً فلسفياً وإبداعاً خلاقاً، وتجربة روحية، ويستمد المؤلف مادة كتابه من الأدب والتاريخ والفلسفة، وبذلك يقدم أطروحة فلسفية وتعريفاً لفن المشي.

كان نيتشه– كما يوضح المؤلف- مشاء رائعاً، في كتاباته يشير إلى ذلك كثيراً، كان المشي في الهواء الطلق، يشبه العنصر المكون لأعماله، والمرافق الذي لا يتبدل لكتابته، كان يقول: «أمشي كثيراً بين الغابات وأنا أحاور نفسي محاورات عجيبة» و«لو كان بإمكاني الحصول على منزل صغير في مكان ما، سأمشي من ست إلى ثماني ساعات في اليوم، مؤلفاً أفكاراً سأبسطها على الورق بقلمي».

كان يرى أن الكتابة ليست إلا استراحة خفيفة، كما يستريح الجسم أثناء المشي من خلال تأمل الفضاءات الشاسعة، وهذا يعني عند نيتشه امتداحاً للقدم، إننا لا نكتب باليد فقط، بل لا نكتب جيداً إلا بالقدمين، كان نيتشه يمشي طوال اليوم، يخربش هنا وهناك، بما كان يوحي به إلى فكره هذا الجسد الذي يمشي.

مشي نيتشه بمفرده ثماني ساعات في اليوم، ويكتب «المسافر وظله» ويقول: «كل شيء في هذا الكتاب ما عدا ربما بعض الأسطر، تم التفكير فيه وأنا أمشي، وتسجيله على عجل في ستة دفاتر صغيرة.. البحر والسماء النقية ماذا حصل لي كي أعذب نفسي في الماضي» كان يمشي سيداً على العالم والبشر، يؤلف في الهواء الطلق، ويتخيل ويكتشف، ويتحمس ويخاف مما يكتشفه، يضطرب ويؤخذ بما يقع أمام خطواته.

في منتصف عام 1880 شكا نيتشه من أنه لم يعد بمقدوره المشي، كما كان يفعل سابقاً، صار يعاني آلاماً في الظهر، ويضطر إلى قضاء وقت طويل، مستلقياً على أريكة، ومع ذلك كان يصر على المشي، حتى وصل إلى درجة الجنون، منفلتاً من السيطرة.

ولد الفيلسوف «كانط» ومات دون أن يغادر مسقط رأسه، لم يسافر قط، وكان والده صانع سروج وأحزمة، وأمه شخصية ورعة، ولم يسمع شتيمة في منزله إطلاقاً، درس وعمل وأصبح مدرساً، ثم أستاذاً جامعياً، وفي بداية كتابه الأول كتب: «لقد أعددت لنفسي طريقاً، وسأتبعه بمجرد أن أبدأ سيري، لا شيء يمكن أن يوقفه».

كان منضبطاً كالساعة، وبصرف النظر عن القراءة والكتابة، ظل مشغولاً بشيئين: ضرورة المشي، وماذا سيأكل، ولأنه لم يكن يطيق أن يتعرق جسمه، كان يمشي ببطء شديد خلال الصيف، ويتوقف تحت ظل شجرة، حين يشعر ببضع قطرات من العرق، ففي الساعة الخامسة يومياً كان يخرج في نزهة، يجب القيام بها، سواء كان الطقس جيداً أم رديئاً، كان يقوم بذلك بمفرده.

وفي سن مبكرة قال الشاعر الفرنسي رامبو: «أنا أمشي على قدمي ولا شيء أكثر من ذلك» ومشى حياته كلها، حتى إن صديقه الشاعر فيرلين اعتبره «الرجل الذي انتعل الرياح»، كان يشعر بالوحدة في قريته الصغيرة، ويحلم بباريس والشعر والشعراء، لذا هرب مترعاً بالأحلام، غادر مشياً على الأقدام.

عاش هروباً متكرراً إلى باريس، متسكعاً في لندن، ورحالة في بلجيكا، عبر جبال الألب، ومشى في الصحراء وأخيراً في هرر، إلى أن يكتب: «في الوقت الحالي لست على ما يرام» لم يعد ينام و«أنا في حالة سيئة للغاية» هكذا كتب في رسالة إلى أخته.

كانت ساقه قد بترت، وينتظر ساقاً اصطناعية، ليتمكن من المشي مرة أخرى، كان يتحدث كل يوم عن ساقه الجديدة، ويطالب بها «لكي يحاول النهوض والمشي» وينظر إلى السماء وينادي:«أنا سيواريني التراب وأنت ستمشين تحت الشمس» ومات رامبو في 10 نوفمبر عام 1891 بعد أن بلغ السابعة والثلاثين، كان عابراً لم يجئ إلا من أجل الرحيل.

يؤكد المفكر الفرنسي جان جاك روسو أنه لا يستطيع فعلاً التفكير والتأليف إلا وهو يمشي، تأتيه الأفكار خلال المشي لمسافات طويلة، وعلى الطرقات تتدفق الجمل من بين شفتيه، كان يقول: «أنا لا أفعل شيئاً إلا أثناء النزهة، إن مظهر الطاولة والورق والكتب يشعرني بالملل، وإذا جلست لأكتب، لا يحضرني أي شيء».

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/s4ybxw9j

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"