فلنحتفل لكن بحذر

21:34 مساء
قراءة 4 دقائق
ماريو بليجر *
بيروشكا موهاتشي **

لم يجتز الاقتصاد العالمي مرحلة الخطر بعد، فانحسار التضخم مجرد جزء واحد من عملية التعافي، ومن غير المؤكد ما إذا كانت بقية الأجزاء ستلتئم لاحقاً.

بعد أكثر من عام من التضييق النقدي المتشدد، بدأ التضخم في الولايات المتحدة وحول العالم ينحسر أخيراً. لكن الاحتفاء الحذر مطلوب هنا، وعلى السياسة النقدية أن تكون أكثر فاعلية، وأن تحتفظ البنوك المركزية، بعد تخليها عن وهم التضخم «العابر»، بما يكفي من المصداقية، للاستجابة بحكمة وعقلانية للمتغيرات القادمة.

وخلافاً لتوقعات نماذج الاقتصاد الكلي المعيارية، وعلى الرغم من رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي معدلات الفائدة إلى أعلى مستوى في 22 عاماً، فإن عملية خفض التضخم المستمرة لم تسفر عن خسائر كبيرة في الناتج أو بطالة هائلة. وبصرف النظر عن بعض أخطاء السياسة الذاتية التي تسببت بإفلاس العديد من البنوك الأمريكية، مؤخراً، لم تكن عملية خفض التضخم مؤلمة نسبياً حتى الآن.

علاوة على ذلك، قادت الأسواق الناشئة، الطريق في رحلة مكافحة التضخم، وبدأت في تشديد السياسة النقدية قبل عام تقريباً من قيام الفيدرالي والبنوك المركزية الرئيسية الأخرى بذلك، وقد نجحت بالفعل في تجنب الضغوط المالية التي ابتليت بها خلال دورات الإحكام السابقة للفيدرالي.

لكن علينا الحذر؛ لأن الاقتصاد العالمي لم يجتز مرحلة الخطر بعد.

فعلى الرغم من الأرقام الأخيرة المشجعة، فإن خفض التضخم هو مجرد جزء واحد من عملية التعافي بعد الجائحة، ومن غير المؤكد ما إذا كانت بقية الأجزاء ستلتئم لاحقاً.

ما هو مؤكد اليوم، أن تجاهل السياق التاريخي للتطورات الاقتصادية، كان سبباً مباشراً لارتكاب أخطاء السياسة الحالية. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإن جذور أزمة التضخم الحالية، تمتد أعمق من أزمة «كورونا». وعلى الرغم من أن الارتفاع الحاد في التضخم وما تلاه من زيادات في أسعار الفائدة يُعزى في كثير من الأحيان إلى نمو الطلب الناجم عن الاستجابة المالية والنقدية للوباء، فإن هذه التدابير لم تُفضِ إلا إلى تفاقم الاختلالات التي أوجدتها استجابة السياسات للأزمة المالية العالمية للفترة ما بين 2008 و2010.

ومنذ ذلك الحين، تضاعفت ميزانيات البنوك المركزية الرئيسية بأكثر من ثلاثة أضعاف، وأدى عقد من التسهيل الكمي إلى نمو نقدي قوي، وحفّز موجة غير مسبوقة من شراء السندات. وحتى داخل الأسواق الناشئة، توسعت ميزانيات البنوك المركزية بشكل كبير، لتتفاقم أكثر أثناء الوباء.

وفي حين أن هذه السياسات النقدية التوسعية، لعبت دوراً حاسماً بلا شك في التخفيف من أسوأ آثار الأزمة المالية العالمية وجائحة «كورونا»، فقد ولّدت أيضاً اختلالات هائلة في الاقتصاد الكلي، مثل تضخم المعروض النقدي وزيادة في احتياطات البنوك، ما أدى إلى خلق حوافز هائلة للمخاطرة، وشجع على ارتفاع مستويات الدين العام والخاص، وتضخم فقاعات الأصول المضاربة، ووجه تخصيص الموارد نحو العوائد قصيرة الأجل، بعيداً عن الاستثمارات الحقيقية. وأدت المساعدات المالية وعمليات الإنقاذ المباشرة وغير المباشرة، التي ميزت تلك الحقبة، إلى تراكم هائل للمخاطر الأخلاقية.

في المقابل، شجعت الإصلاحات المالية بعد أزمة 2008 عن غير قصد المواءمات التنظيمية، ما أدى إلى زيادة هائلة في حصة الأصول المالية التي تحتفظ بها المؤسسات المالية غير المصرفية الخاضعة للتنظيم الخفيف؛ مثل: صناديق التحوط وتبادل العملات المشفرة.

وبما أن هذه المؤسسات تمثل حالياً ما يقرب من نصف الأصول المالية مجتمعة، فالطريق ممهد أمام تفاقم المخاطر النظامية.

إلى ذلك، من المؤكد أن موجة التضخم الحالية كانت مدفوعة أيضاً بعوامل أخرى؛ مثل: اضطرابات سلسلة التوريد المرتبطة بالوباء، والحرب الروسية الأوكرانية، والتنافس الشرس بين الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن النزعة القومية الاقتصادية المتنامية التي انعكست على سياسات صناعية واسعة النطاق. ومن خلال التشديد السريع لسياساتها النقدية لضبط التضخم، ربما تكون البنوك المركزية قد فاقمت بعض هذه القضايا، ما تسبب في ضائقة مصرفية كادت تصل حد الركود. بالتالي، فإن حقيقة أن المؤسسات المصرفية تواجه تحديات كبيرة في حل ميزانياتها المتضخمة ومعالجة الحوافز الضارة ذات الصلة، تزيد الأمور تعقيداً.

لقد أضاعت البنوك المركزية فرصة الشروع في تشديد كمي حقيقي في عقد ما بعد الأزمة المالية العالمية. بعد ذلك، عندما انهار بنك وادي السيليكون في مارس/ آذار الماضي، مهدداً بإحداث أزمة مصرفية أخرى، تدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي، وطبق جولة من التيسير الكمي، أدت فعلياً إلى عكس ثلثي التخفيض المتواضع في الميزانية العمومية الذي بدأه سابقاً. من ثم، قدمت الحكومة الأمريكية ضمانات على جميع الودائع في البنوك المتضررة، بغض النظر عن وضعها وحجمها، ما شكل سابقة خطرة لعمليات الإنقاذ المستقبلية.

وفي أوروبا، وعلى الرغم من التشديد النقدي العام، فإن البنك المركزي واصل اتباع سياسة التيسير الكمي الفرعي، مع التأكد من أن موقف السياسة النقدية ينتقل بسلاسة عبر جميع بلدان منطقة اليورو، ما يضمن شراء السندات من الدول ذات المخاطر العالية كإيطاليا.

بشكل عام، وبينما يوفر الاتجاه الهبوطي للتضخم واحتواء الأزمة المصرفية الأخيرة، بعض الراحة اليوم، لا تزال الاقتصادات الرئيسية في العالم، تصارع الحوافز المشوهة والاختلالات المتوارثة الهائلة والمستمرة في النمو.

لذا، في وقت تتصاعد فيه المخاطرة، وحالة عدم اليقين على مستوى الاقتصاد الكلي والجغرافيا السياسية، يجب أن يكون أي احتفال بالتقدم المحرز في مكافحة التضخم مصحوباً بالحذر، فلا يزال أمامنا طريق طويل نقطعه.
* الرئيس السابق للبنك المركزي الأرجنتيني.

** أستاذة زائرة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. (بروجيكت سيندكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc2jspxr

عن الكاتب

الرئيس السابق للبنك المركزي الأرجنتيني

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"