نتحدث عن لا شيء

00:33 صباحا
قراءة دقيقتين
يبدأ مطلع أغنية أجنبية بالقول: «تعال نتحدث عن لا شيء»، كأنها دعوة لتجزية وقت جميل في حديث غير مخطط له. يذهب أستاذ الجامعة ليلقي محاضرة على طلابه وطالباته حضّر لها في الليلة الماضية قبل أن ينام، إنه يعرف ما سيقول، وطلابه يتوقعون ما سيقول. يذهب المدير إلى اجتماعه الصباحي مع مرؤوسيه وهو عارف ما التوجيهات التي سيقولها لهم، ومن خبرتهم، فإن هؤلاء المرؤوسين يتوقعون ما عساه مديرهم يقول. ويذهب رجل الأعمال للقاء رجل أعمال آخر أو مندوب شركة أو مؤسسة مالية ليبرم صفقة كان قد درس تفاصيلها بعناية. إنه يعرف ما يريد، وما سيقول.
ما تتحدث عنه الأغنية الأجنبية هو غير هذه اللقاءات، لا يشبهها في شيء. نذهب إلى مقهى يجاور البحر أو يطل عليه، أو إلى مطعم يروق لنا، وقد اخترنا من سنذهب معه إلى هناك كي نتحدث عن «لا شيء». وليس مهماً عن ماذا سوف نتحدث، الموضوع هو الشخص الذي ذهبنا معه. إننا نريد رؤيته ثم الحديث معه، سنجعل من كل أمر صغير موضوعاً، يمكن أن نتحدث عن كل شيء، أو أي شيء، وأن نجد متعة لا تضاهى في هذا الحديث، وقد نكرر الحديث عن أشياء نعرفها، أشياء ليست جديدة، مع ذلك نكتشف في كل مرة جديداً فيها.
ما من موضوعات مهمة وأخرى غير مهمة في هذا الحديث، هناك حديث فقط، حديث ممتع، مسلٍ، شفيف، كأننا نتدرب فيه على الكلام أول مرة، ونختبر قدرتنا على إيصال فكرة بسيطة إلى شخص يعنينا أمره كما لا يعنينا أمر أحد سواه. سنجد زوايا مختلفة للحديث، ونكتشف، في كل مرة، أن للحديث متعة لم نكتشفها من قبل، تمنحنا شعوراً غريباً بالحرية، ربما لأن جليسنا منحنا أماناً لنقول كل ما نريد.
ليس ضرورياً أن نذهب إلى مقهى يجاور البحر أو يطل عليه، ولا إلى مطعم يروق لنا، كي نتحدث مع أحدهم. يحدث أن يحقق الحديث معه بالهاتف الغاية ذاتها، حين تدفعنا رغبة غامضة في أن نهاتف من نرغب في التحدث معه حول «اللا شيء»، فيتدفق الكلام كشلال ماء صاخب، لنعجب من قدرتنا على كل هذا الكلام نحن الذين حسبنا أنفسنا ميالين للصمت، فنبدأ بسرد أبسط التفاصيل، وحتى أتفهها، نروي كل ما حدث، ونسأل عن كل ما حدث، وربما نفطن حينها أن تدفق الكلام أمارة أن القلب ينبض بقوة، وأنه حين يصبح الصمت ملاذاً علينا أن ندرك أن الأمور قد دخلت في خريفها.. لقد ولّى الربيع!
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2wvat3u3

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"