عادي
صدر في الشارقة

«ببغاء فلوبير».. رواية القارئ الذكي

19:39 مساء
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

في عام 2019، صدرت النسخة العربية من رواية «ببغاء فلوبير»، للكاتب الإنجليزي جوليان بارنز، عن دار روايات، ترجمة راتب بندر محمد الحربي، والرواية وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر»، البريطانية، عام 1984، وهي رواية شديدة الاختلاف من حيث البناء السردي، مما يصعب على القارئ أن يصنفها ضمن الأدب الروائي، ربما سيتعامل معها كسيرة أدبية، أو عمل أدبي ذهني شديد التعقيد، وذلك التشويش الذي سيدهم ذهن المتلقي في قراءته للعمل السردي، يبدو مقصوداً من الكاتب من أجل صناعة مادة إبداعية تجمع بين الأدب والفكر والتأمل في جانب من سيرة أحد عظماء الأدب عبر مدخل غير مطروق، ويؤكد على قوة الالتقاط لدى بارنز.

الرواية تؤكد على البراعة الأدبية والإبداعية لدى بارنز، الكاتب المولود في عام 1946، ويعدّ أحد أهم الكتاب الإنجليز المعاصرين، بل ويشار إلى أنه أحد أعلام حركة ما بعد الحداثة الأدبية في إنجلترا، نشر روايته الأولى عام 1980، ثم تتابعت مؤلفاته من بعد ذلك ما بين الروايات والقصص القصيرة والمقالات والرسائل، ومن أهم أعماله «تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف»، و«آرثر جورج»، و«الإحساس بالنهاية» تلك التي حاز بها جائزة البوكر العالمية، إضافة إلى هذه الرواية «ببغاء فلوبير»، العمل الذي جمع بين فنون وأنماط إبداعية مختلفة من سرد ورسائل وغير ذلك، وربما لذلك السبب يعتبر الكاتب من الأدباء المجددين والمبتكرين في عالم الكتابة السردية والأدبية.

*نقلة أسلوبية

أراد بارنز للرواية أن تشكل نقلة جديدة في مسار الأعمال السردية، عبر تقنيات ورؤى إبداعية تتسم بالابتكار، فقد أبى الكاتب أن يتبع الأساليب التقليدية في الرواية، واختار لها أن تتراوح بين الحقيقة والخيال؛ إذ يقدم في هذا العمل وقائع حقيقية ويقترح أخرى خيالية من أجل دعم بنية السرد، ويتضمن ذلك الأمر الأحداث والمراسلات، بل ويمارس اللعب في الأزمنة كذلك والفضاء المكاني، وذلك ما وفق فيه الكاتب الذي نجح في صناعة عمل فني وصف بالبارع والمتقن؛ حيث استطاع الوصول به إلى القائمة القصيرة للبوكر العالمية، لتجد الرواية صدى كبيراً وسط جمهور الأدب والنقاد الذين تباروا في تناولها والكتابة عنها، حيث وصفها الروائي جون إيرفينغ بأنها «جوهرة»، وقال عنها: «رواية أدبية جريئة لا تخجل أيضاً من أن تكون قابلة للقراءة ومسلية على نطاق واسع»، في إشارة إلى أن الكاتب وضع أصنافاً من القراء في اعتباره وهو يمارس فعل كتابة أحداث وتفاصيل العمل، إلا أن الرواية بصورة عامة لا تخلو من تحديات تتطلب بالفعل قارئاً ذكياً وحاضر الذهن، أو صاحب خبرة في القراءة والاطلاع على أصناف وأشكال متنوعة من الأعمال السردية.

الرواية تقع في 281، صفحة من القطع المتوسط، وتشتمل على 15 عنواناً هي: «ببغاء فلوبير»، «تسلسل زمني»، «صاحب الشيء من وجده»، «حيوانات فلوبير الرامزة»، «قرقعة»، «عينا إيما بفواري»، «عبر القناة»، «دليل متتبع القطارات عن فلوبير»، «فلوبير والكتابات المنتحلة»، «القضية المرفوعة»، «رواية لويز كوليه»، «معجم بريثويت للأفكار المقبولة»، «حكايات حقيقية»، «أوراق الاختبار»، و«الببغاء...»، ولعل اللافت في العمل السردي هو ذلك الإهداء المميز والذي يقود المتلقي بصورة مباشرة ومدهشة نحو عوالم الرواية، فقد استدعى من خلاله بارنز كلمات كان قد أهداها الكاتب والأديب الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير «1821 1880»، للكاتب والإعلامي إرنست فيدو، والتي جاء فيها: «حينما تكتب سيرة صديق افعل ذلك وكأنك تثأر له»، وربما ذلك ما فعله بارنز في هذه الرواية، فقد أراد بالفعل الدفاع عن ذلك الكاتب الفرنسي الكبير الذي أحبه وعشق أعماله بل ونمط حياته وطقوسه في الكتابة وطريقة العيش.

*جرأة

مارس بارنز في هذه الرواية فعلَ اقتحامٍ جريئاً لعوالم أحد أعمدة الأدب العالمي ألا وهو غوستاف فلوبير، المؤلف صاحب الروائع الروائية الشهيرة: «التربية العاطفية»، و«مدام بوفاري»، التي امتازت بواقعيتها وروعة أسلوبها، والتي أثارت قضية الأدب المكشوف، إضافة إلى العديد من الروايات الأخرى، حيث يعتبر فلوبير مثلاً أعلى للكاتب الموضوعي الذي يكتب بأسلوب دقيق ويختار اللفظ المناسب والعبارة الملائمة، ورواية «ببغاء فلوبير»، تتناول قبساً من تلك السيرة، حيث يعود العمل السردي بالقراء إلى فرنسا في القرن التاسع عشر، في تفاصيل رواية أشبه بالرحلة الحالمة، أقرب إلى السيرة الخيالية التي فضلت أن تمارس فعل تكسير وتحطيم القواعد الروائية المعروفة نحو تحقيق نص مفتوح، فبارنز لا يكتب سيرة مباشرة عن فلوبير، بل يفعل ذلك عبر صناعة شخصية خيالية في الرواية وهو بطل العمل جيفري بريثويت، ذلك الطبيب الأرمل، الذي يدخل عالم الأدب من باب التوثيق، ويعمل بارنز من خلال تلك الشخصية المختلقة، على اقتفاء سيرة فلوبير، ويمارس فعل الدفاع عنه والثأر من كل من اعترض مسيرته الإبداعية، أو من كل شيء كان قد انتقده فلوبير، فالرواية تثأر من النقاد الذين يحاصرون الكاتب ويطالبونه بأن تكون حياته متوافقة للشعارات والأهداف التي رفعها عبر أعماله، وكذلك الثأر من الذين وصفهم فلوبير ب«عبدة الأدباء»، أي الذين يقدّسون الكتاب من أغبياء يظنون ظناً آثماً أن خلاصهم الشخصي يكمن في تنفيذ وصايا الكاتب، وذلك نوع من الحب الشقي تعمل الرواية على محاربته عبر بطل العمل.

*بطل موازٍ

حاول بارنز عبر الرواية أن يصنع بطلاً موازياً لفلوبير عبر الشخصية التي اخترعها «بريثويت»، ليقترب من عوالم الروائي الشهير دون مسؤولية تحول بينه وبين إطلاق العنان لخياله في صناعة أحداث ووقائع وكتابة رسائل غير موجودة في سيرة فلوبير، كما يعمل على مقاربة الشخصيات بحيث يبدو السرد واقعياً وحقيقياً، ولئن كان بريثويت يرمز لفلوبير؛ فإن زوجته المنتحرة «إلين»، ترمز هي الأخرى إلى إيما بوفاري، إحدى شخصيات فلوبير الروائية، وهي العلامات التي يمكن من خلاله الكاتب المتلقي من التقاط تفاصيل العمل، من أجل أن يفهم أحداثه ومنعطفاته التي لا تخلو من الإثارة والتشويق والمتعة.

*ثلاث حكايات

وللاقتراب من عوالم هذه القطعة السردية، نقرأ في الرواية «استعار غوستاف فلوبير ببغاء أمازونياً، ووضعه على طاولة كتابته فترةً وجيزة، ثم أعاده. ظهر هذا الببغاء في كتابه (ثلاث حكايات)؛ حيث جمعت بين الببغاء وبين امرأة يائسة علاقة غريبة وصلت حد التقديس. والآن، بعد كل تلك السنوات، يأتي طبيب متقاعد وأرمل، جيفري بريثويت، الهاوي لعوالم فلوبير، ليسأل: أين هو ذاك الببغاء الأمازوني الأخضر، ذهبي العنق، وردي أطراف الجناحين؟، يعثر بريثويت في سفره لرؤية الببغاوات المحنطة في المتاحف المخصصة لآثار فلوبير، على ببغاوين يحيرانه، وكثير من الأشياء والمعلومات التي تدهش القارئ، وتطرح عليه أسئلة هي من العمق بحيث قد تغير آراءه ونظرته نحو الكتابة والقراءة: هل اكتشف فلوبير المذهب الواقعي فور عودته من زيارته إلى مصر (الشرق)؟ ما سرّ كرهه النقد والنقاد؟ هل كان رجل صالونات أدبيّة أم كان منزوياً في بيته الريفي؟ ما الوفاء وما الخيانة؟ من هو فلوبير؟ ومن هي حقاً مدام بوفاري؟».

*اقتباسات

*«إن الأيام الخوالي جميلة؛ لأننا كنا صغاراً، جهلة جهل صغار السن»

*«إنّ حُلم الديمقراطية برمّته هو رفع البروليتارية إلى مستوى الغباء الذي حققته البرجوازية».

*«لا يزال قلبي مفعماً، لكن مشاعري، متوقدة من طرف، وبليدة من طرف آخر، مثل سكين قديمة شدّت مراراً وتكراراً، متكسّرة النصل، تتحطم بسهولة».

*«إنّ إحدى طرق إضفاء المصداقية على الصّدف، بطبيعة الحال، هي تسميتها بالمفارقات. هكذا يفعل الأذكياء».

*«أحب عملي حبّاً محموماً وغريباً، كالزاهد يحبّ قميصه الخشن الذي يخدش بطنه».

*«إنّ الحياة شيء فظيع، أليس كذلك؟ إنها مثل حساء وكثير من الشعر يطفو على سطحه، ومع ذلك، عليك تناوله!».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2p96kup6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"