عادي

تعرف إلى علم الاجتماع النقدي

21:16 مساء
قراءة 4 دقائق
زيجمونت باومان

القاهرة: الخليج

اختار المفكر وعالم الاجتماع البريطاني زيجمونت باومان، طريقاً مختلفاً عن الطرق المعتادة، التي يسلكها الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وتميز بقدرته على استحضار القضايا الوجودية الكبرى، وربطها بالواقع المعيش، وتفسيرها بالإحالة على أمثلة من الحياة اليومية والتاريخ والأدب والفن.

واستطاع أن يؤسس علم اجتماع نقدي، يفكك الثنائيات المتعارضة السائدة، ومن أهمها ثنائية الموضوعية والذاتية، فأكد أن الإدراك عمل إبداعي للعقل في التقائه بالواقع، وأن الذات القائمة بالإدراك ذات فاعلة، وأن المعرفة الموضوعية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الذاتية، وهذا يعني أن الفهم عملية تأمل متواصل ومراجعة لانهائية.

* مفاهيم

تكشف أعمال باومان عن دور المفاهيم والصور المجازية في تفسير الوضع الإنساني، فقد لعبت مفاهيم الطبقة والسلطة والأيديولوجيا دوراً بالغ الأهمية في تنظيم الخريطة السوسيولوجية للعالم الإنساني، بل إن المجتمع نفسه صورة مجازية أساسية، تشير إلى كل مجرد وجماعة متخيلة تنعم بحماية الأمة/ الدولة.

هذا الاهتمام بالمجاز يتجاوز المقاربات التقليدية للصور المجازية، بوصفها أدوات بلاغية وجمالية، ويدعم الجهود البحثية الرامية إلى الدعوة السوسيولوجية لتأسيس علم اجتماع معرفة، يقوم على المجاز، لاسيما أنه يساعدنا على فهم تحولات رؤى العالم أو حتى تحديها وإسقاطها.

يميل المجاز إلى النزعة الاختزالية بطبيعته، لكنه أداة ضرورية للتعامل مع الوضع الإنساني، مادام الإنسان والوضع الإنساني ليسا من الموضوعات المثالية للمعالجة العلمية، وهكذا يصبح استخدام المجاز مؤشراً حقيقياً على رفض العمل، وراء ستار ادعاءات زائفة، والتطلع إلى سلطة أعظم مما يمكن تحقيقها في الواقع، والأهم رفض تشويه التواصل بين الذات والموضوع، وهذا يعني أن المجاز ليس مجرد إستراتيجية إدراكية، بل هو اختيار أخلاقي.

في هذا الكتاب الصادر عن المركز القومي للترجمة بعنوان «أهل التشريع وأهل التأويل.. في الحداثة وما بعد الحداثة والمفكرين» (ترجمه إلى العربية حجاج أبو جبر) يصف زيجمونت باومان البشر في مرحلة ما قبل الحداثة بأنهم «حراس الأرض» وهي صورة مجازية تشير إلى الدفاع المستميت ضد تدخل الإنسان أو انتهاك الخلق المثالي أو إفساد ترتيبه ونظامه.

في إطار النماذج اللاهوتية والدينية كان الله غاية الوجود، وكان أداء البشر لدورهم يقوم على الإيمان بأن كل شيء يكون على ما يرام إذا ترك لحاله، وأن العالم سلسلة وجود ربانية، يجد فيها كل مخلوق مكانه المناسب، حتى وإن استعصى على البشر فهم الانسجام والتناسق والحكمة، التي يتسم بها خلق الله.

* أهل البستنة

أما عصر الحداثة فيتطلب صورة مجازية قادرة على وصف الواقع الجديد الذي تبدت معالمه، وهنا يقترح باومان صورة «أهل البستنة» في إشارة إلى الدور الجديد، الذي أسند إلى البشر، وهي صورة تكشف عن الاختلاف بين الدور التقليدي لحارس الأرض، والدور الحديث للبستاني الذي يرمز إلى التدخل الفعال للإنسان في العالم.

تطلبت الحداثة «أهل بستنة» مشهود لهم بروح المغامرة والتمرد، ولم تتطلب جماعة تقليدية من الحراس المحافظين، ذلك لأن البستاني يفترض أنه لن يوجد نظام في العالم لولا جهده ورعايته الدائمة، والبستاني يخطط التنظيم المرغوب في رأسه أولاً، ثم يتأكد أن الصورة التي رسمها في ذهنه تصير واقعاً في الأرض التي يتعهدها.

أضاف باومان إلى صورة «أهل البستنة» صورة مجازية أخرى وهي «أهل التشريع» حتى يكشف عن أسس الحداثة وعواقبها، ويذهب باومان إلى، أن الملك المطلق هو النموذج الأول للدولة الحديثة، وأن سلطة الدولة كانت سلطة تشريعية مطلقة، وبات العلماء والمفكرون يتصورون «أن المجتمع فضاء شاغر، لا يسكنه أحد، وأرض لا صاحب لها، أرض خالية بحاجة إلى من يستعمرها، ويسن لها قوانينها، ويحكم السيطرة عليها، في نموذج محدد».

يسوق باومان صورته المجازية التي تشكل فهمه للحداثة قائلاً: «كان الفلاسفة والحكام في العصر الحديث أهل تشريع في المقام الأول، إذ وجدوا عالماً من الفوضى، فتصدوا لترويضه واستبداله، ليحل محله عالم النظام، هؤلاء المشرعون لم يكونوا أناساً بسطاء، بل كانوا أناساً خارقين يفوقون قدرة البشر، ويتجاوزون الواقع القائم، ويفحصونه من الخارج، وكان من بين أهل التشريع المشرع والفيلسوف والعالم، وكل من يمتلك القدرة على توضيح الأفكار المعقدة».

لم يقتصر دور أهل البستنة وأهل التشريع على الحدود الجغرافية الأوروبية، بل إن المغامرة الأوروبية في أوج توسعها الإمبريالي، رأت أن الكرة الأرضية بأسرها مجرد أراض شاسعة، بانتظار من يكتشفها، وملعب خال، وأرض يباب، لا صاحب لها، وهكذا تحولت بقية العالم بدعوى الرسالة الحضارية والسرديات الكبرى لحركة التنوير، إلى فراغ ينبغي اكتشافه، ثم تصميمه بطريقة أفضل.

* مرجعية

رأى باومان في ظهور الحداثة الغربية انقطاعاً راديكالياً في التاريخ الكوني لأنها رأت نفسها المرجعية التي يقوم عليها تأويل الغاية النهائية من التاريخ، وأصبغت نفسها بشرعية وأحقية في استعمار المستقبل، كما استعمرت الفضاءات المحيطة، وتحولت كافة الفضاءات والأزمنة الأخرى إلى مجرد موضوعات، تخضع للقولبة والتشكيل والتعليم والتثقيف، وتستمد هذه الرسالة الحضارية قوتها واستمراريتها من افتراض بأن كافة الأزمنة الأخرى نسخ منقوصة أو مشوهة.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39yy4tur

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"