عادي
في شاعرية البصر

«الكوفي البوستاني».. إشراقة لا نهائية

23:28 مساء
قراءة 4 دقائق
جمال بوستان

الشارقة: جاكاتي الشيخ
يعتبر الخطاط السوري جمال بوستان واحداً من كبار الفنانين الذين أبدعوا في مجال الخط العربي، حيث استطاع أن يجعل من لوحاته أعمالاً حروفية مبتكرة، تمزج بين الخط العربي الأصيل والفن التشكيلي في أحدث تجلياته، مسهماً بذلك في بعث الإشراقات الجمالية اللامتناهية للحرف العربي.

يمتلك بوستان تجربة كبيرة في الخط العربي؛ حافلة بالإبداعات المتميزة، حيث استطاع خلالها إتقان العديد من أنواعه، مُقدِّماً مئات الأعمال الخطية والحروفية، إلا أن تركيزه على الخط الكوفي مكّنه من استنباط أسلوب خاص، أطلق عليه الباحثون اسم «الكوفي البوستاني»، وهو نمط يحافظ على القواعد العامة للكوفي، وتنساب فيه الحروف وألوانها بتشكيلات حداثية متنوعة تمنح الخطوط جمالاً متجدّداً، لتجذب انتباه المشاهد، وتطوف به في جماليات الخط العربي الآسرة، ومن أمثلته اللوحة التي نتناولها هنا.

  • عذوبة

اختار بوستان لمضمون هذه اللوحة نص بيتين رائعين للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، يقول فيهما: «عذبةٌ أنتِ كالطُّفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديدِ / كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِ كالوردِ كابتسامِ الوليدِ»، وقد كتب أساس اللوحة بالخط الكوفي، الذي يعتبر تناسقه الهندسي أهم خصائصه، مُطوّعاً حروفه في شكل يضبط المعاني التي يعبر عنها مضمون البيتين، ثم عالجها ببراعته التشكيلية، حتى أكمل تنفيذها بصورتها الحروفية واصلاً بذلك إلى درجة عالية من القدرة على التجديد في فن الخط العربي، من خلال المزج بينه وبين الفن التشكيلي، في عمل استوت فيه أغراض الفنين، فجمع بين الكتابة الخطية وبين جماليات اللون والكتلة، مكوِّناً بذلك نمطه الخطي الجديد، ومبرزاً الإمكانيات الجمالية الكثيرة التي يمكن تقديمها من خلال الأنواع المختلفة للخط العربي الأصيل.

وقد اختار البيتين لما يتميزان به من شاعرية، وعذوبة لغوية سلسة، كان مصدرها محبوبة الشاعر، التي تتصف بكل سمات البراءة، فهي كالطفولة وما تمثله من نقاء فطري، وكالأحلام التي يسبح فيها الخيال بكل حرية، وكاللحن المرتحل بالأرواح بين غيوم الإمتاع، وكالصباح الجديد وما يحمله من وعود استمرار الزمن، وكالسماء الضحوك التي تتراءى فيها القسمات الملائكية، وكالليلة القمراء التي يتحول فيها الظلام إلى أنيس خافت، وكالورد الناثر للون الجمال ورائحته، وكابتسام الوليد المؤذن بابتسام الأمل في الحياة، وكلها دلالات جمالية عميقة دفعت الخطاط بوستان إلى تنفيذ هذا العمل الإبداعي.

  • استلهام

ويعكس التكوين المعماري العام لهذه اللوحة ما يتميز به بوستان من قدرة على الجمع بين رشاقة التشكيلات الحروفية، والمساحات اللونية الشفيفة المطرزة بوحدات هندسية بديعة، توائم طابع الحرف العربي وتستلهم روحه وجماليته، فانطلق في كتابة نصه من الأعلى ليسهل على المشاهد قراءته، فكتب «عذبة» بشكل منفرد ليلتقط القارئ مقبض الجملة المفتاحية للعمل، ثم أتبعها ب «أنتِ» التي كتبها تحتها مباشرة لإمكانية التبادل بينهما: «أنت عذبة»، ولتكتمل الجملة المفتاحية التي يتعلق بها ما سيأتي من النص، وهو ما عمد إلى إبرازه من خلال عملية تداخل الحروف العمودية الممدودة، والمنطلقة من الكلمتين السابقتين عبر ألف «أنت» وطاء «كالطفولة» التي كتب كلمتها تحتهما في مستوى أفقي أطول، وكأنه يريد من القارئ أن يمد قراءتها ليستحضر دلالتها، بينما كتب تحتها «كالأحلام كاللحن» في مستوى واحد لأنهما أكثر خيالية من بقية العبارات الواردة في النص وترتبطان في الدلالة، ثم كتب تحتهما «كالصباح الجديد» في مستوى واحد كذلك، لأنها عبارة مكتملة، توحي بالبدايات والتجدد، وكتب في المستوى الواقع تحتها «كالسماء الضحوك»، وهي أيضاً عبارة واحدة، أراد أن يشكل من بعض حروفها – كالهمزة والألف المتقوسة تحتها –، وكتب تحتها «كالليلة القمراء»، وهي أيضاً عبارة واحدة، محدثاً في بعض تدرّجاتها اللونية ما يشبه نور القمر الخافت، ثم كتب «كالورد» منفردة لأنها فعلاً كذلك، ولكنه تعمد ذلك أيضاً ليقابلها بكلمة «العذوبة» في أعلى قمة النص، وكأنه يريد أن يوحي بأن هذا العمل؛ بمضمونه ناثر لعذوبة اللون ورائحته، ثم كتب عبارة «كابتسام الوليد» مستقلة، للإشارة إلى أن هذا العمل أيضاً ابتسامة أمل وليد في جماليات الخط الحروفي العربي، وهو ما يتجلى من خلال طريقته في الكتابة وفي توظيف الألوان وتدرّجاتها البهية.

  • إضاءة

ولد جمال بوستان سنة 1942م، وشغف بحب الخط العربي منذ سنوات الابتدائية والإعدادية، حيث كرس له حياته وبدأ تعلمه بتقليد بعض الخطوط في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وفي سنة 1958م عمل في مكتب هندسة «القنيطرة» التابع لإدارة الأشغال العسكرية، وفي سنة 1960م انتهز فرصة ظهور كراسة هاشم البغدادي التي كانت تعنى بأنواع الخط وقواعده، فبدأ يتعلم من خلالها الخط وقواعده باحترافية، وفي سنة 1965م عمل في إدارة المساحة العسكرية في وحدة الكارتوغرافية، وهو العمل الذي كان له دور كبير في حياته، حيث أتقن كتابة الخط العربي ودرس الفن التشكيلي، ليبدأ منذ تلك الفترة في إنجاز اللوحات وحفظها، وتصميم الشعارات وأغلفة الكتب والمجلات والإخراج الصحفي، وتدريس مادة الخط في الجامعة العربية الدولية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mw7je63p

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"