عادي

تريم وعبدالله والشمعة 53

01:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

أستحضر اليوم، و«الخليج»، تطفئ شمعتها الثالثة والخمسين، ذكرى رفيقي العمر تريم وعبدالله عمران، وقد تصادقنا منذ منتصف ستينات القرن الماضي، أثناء دراستنا الجامعية في القاهرة، وكانا حتى رحيلهما إلى دار البقاء، نِعْمَ القرين والصفي والنجي في آن.

صداقة عميقة جمعتنا حققت لنفوسنا وهجاً ووفاءً متبادلاً يعجز المرء أحياناً عن تفسيره. والوفاء للصديق، بقدر ما هو فضيلة تحمد، بقدر ما تزداد حمداً إذا كانت للصديق رؤية تسهم في إلهام الناس. وكان لرفيقي العمر هذه الرؤية، وأحلام كبرى، وأخلاقيات شموخ عروبي، حتى حينما صارت العروبة الحضارية ثقيلة على حاملها.

ملك صاحباي فائضاً من الضمير والإيثار والفروسية، منذ أن لثغ تريم باسم الوطن العربي في ثانوية الشويخ بالكويت، ومعه شقيقه عبدالله، مروراً بجامعة القاهرة، والحركات الطلابية والولادة الأولى لمجلة «الشروق» وجريدة «الخليج»، وبقية المحطات المدهشة في العمل الوطني العام، والقومي بأبعاده الثقافية والحضارية.

لم يخرج صاحباي عن ذلك النشيد الوطني المفعم بالشوق للاتحاد (الإمارات) وللحرية والكلمة الطيبة، والكرامة للمواطن وللوطن، والاعتزاز بقائد مؤسس، كزايد، طيب الله ثراه، أمِن الناس من الخوف والفقر والتنازع، وعبر بهم إلى دنيا الرفاه والمجد والخير العام، والافتخار ب«شارقة» أشرقت وتبرعمت ثقافة وعلماً وانتماء، على يدي الصديق والمعلم والوفي للمبادئ السامية، سلطان، مد الله في عمره، وبكل مسؤول ومواطن حمل رسالة القائد المؤسس، وعززها بالعمل المخلص، والبناء لصالح العباد والبلاد.

رحل صاحبي تريم عمران في فجر يوم الخميس السادس عشر من شهر مايو 2002، بعد رحلة علاج في أمريكا وبريطانيا، كان في بداياتها صلباً في معاندة وعكته الصحية، وقال ضاحكاً مرة: «المرض يا صديقي يحتاج إلى إنسان يعرف (الأكروبات التلفزيونية)». وكان سخياً في عواطفه مع أصدقائه كالمطر، بسيطاً وشفافاً ومدهشاً حتى في توعكه، ولا يتحدث بنصف لسان، ولا يترك نصف الموقف في الظلام، ولا يتقاعد عن البحث عن الحقيقة.

وكذلك كان عبدالله عمران، لا يميل إلى الاستقالة من أي واجب وطني، متماسكاً حينما تبدو الآفاق مسدودة، وسعى أن تكون الصحيفة «الخليج»، احتياطياً استراتيجياً للدولة الاتحادية، تقرع الأجراس، قبل اندلاع الأزمات واشتعال الحرائق، منحازة للوطن وللأمة، تتقصى كل الشرايين الحية في أوردة الإنسان العربي، وأنسجة المجتمع، تبعث فيها الوعي الإيجابي، وتنبّه إلى كل ما يُغرّب أو يُغيِّب الأجيال الطالعة، عن مصائدها، وحقها في معرفة الحقيقة.

رحل صاحبي عبدالله عمران فجأة في صباح يوم الثلاثين من يناير 2014، والوطن الاتحادي الإماراتي، أكثر نماءً وأكثر إصراراً على بلورة هويته الوطنية، وتحقيق إنجازات مميزة في التعليم والصحة والقوة الصلبة، والبنية التحتية والعمران والتنمية البشرية والإنسانية، والصحيفة ا ل خ ل ي ج، وقد اتسع بيتها وتعددت نوافذها وروافدها، وازدادت ثقة القارئ بها.

غادرا الدنيا إلى دار البقاء، والصحيفة «الخليج»، تستشعر تعاظم المسؤولية المهنية والأخلاقية، تجاه خدمة القارئ، حتى تليق به، فلا تسوقه إلى الوراء أو تفسد ذائقته، أو تعزله عن عصره، أو تغريه بالكسل الذهني، فلا يصمد أمام حركة التاريخ، أو يقعد أمام الواقع.

حمل أبناء عبدالله رسالته، في أزمنة صعبة، وتحديات معقدة، اختلط فيها حابل الحقيقة بنابل الوهم، صخب كبير في الإقليم وفي العالم، وكل شيء يبدو أنه انفجر دفعة واحدة، اضطرابات وفتن وإرهاب وحروب، وأوبئة وزلازل سياسية وطبيعية، وقفزات مذهلة في التقانة ووسائل التواصل، وخراب دول وسط أسئلة كانت مخبأة، وتحولت فجأة إلى مساءلات سياسية وتاريخية وأخلاقية.

نعم هي رسالة ثقيلة، وذكريات اعتزاز وحزن معاً، مع رفيقي العمر تريم وعبدالله، وهي لحظات لتذكر أصدقاء رحلوا. فارسا الكلمة الطيبة نتذكرهما كلما تراكمت على النفس أزمنة الشدة، ونستحضرهما لاجتراح روافع، لكي لا تهوي آخر جدران الأمل في نفوسنا.

الصلة بين الأخوين تريم وعبدالله، وأصدقائهما، تنبض ذكراها دوماً بالحياة وتحمل الكثير من «رومانسية» الشوق لزمن جميل، فيه الكثير من قطرات الوفاء مكثفة، ويشدهم هذا الشوق إلى أرض الوطنية الصافية، والمعاني والقصائد التي استشهد شاعرها غراماً، والتوق لتعزيز إدراك معاني الصداقة، واختزال الوطن والكلمة في العمق، والحيلولة دون انكسار الإرادة واختلال الوعي العام.

أتذكر لحظات مع الراحلين الأثيرين، كانت توجعنا لحظة تأمل لصورة طفل مذعور، يجلس على حافة حجر، من بقايا بيت هدمه جنود نازيون. أستذكر صاحبيّ، في لحظة تعب مقهور، وهما يشهدان بكاء فقير أفغاني، يظهر على شاشة «التلفزيون» لا يعرف سبباً لإفراغ طائرة لحمولتها الزائدة من القنابل على مأواه الطيني، ولا شيء يحدث في العالم المتمدن.

حسناً أيها الصديقان الأثيران الراحلان.

كل شيء سوف يبدأ من جديد وستظل فينا صبوة لنشوة الضوء في ليل هذا النفق، وترديد أشعار المتنبي، والقبض على الجمر، ولرفع الرأس، رغم دمعة ذرفناها على نجمة شاردة، وعلى أحلام مدهشة تعرضت للكسر وتحتاج إلى ترميم وإعادة احتضان.

بقي أن نحمد الله، سبحانه، ونسأله العفو والعافية، وأن يرحم من هزَّنا إليهم الحنين والذكريات والوفاء، وحينما رحلوا نسوا مصابيح قلوبهم مضاءة في أروقة الذاكرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yrprsz8k

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"