عادي
بنجامين ويست أبرز رسامي الأحداث التاريخية

«الجنرال وولف».. أساطير أمريكا الشمالية في لوحة واحدة

23:52 مساء
قراءة 4 دقائق
لوحة «موت الجنرال وولف»

الشارقة: عثمان حسن

بنجامين ويست (1738 - 1820) فنان إنجليزي أمريكي يصعب تصنيفه بحسب المؤرخين، يعود تاريخ اللوحات الأولى لويست إلى سنته الخامسة عشرة، وقد علّم نفسه بنفسه، قام بتدريس جيلين متتاليين من الفنانين الأمريكيين الأوائل في مرسمه في لندن، وعاد معظمهم إلى الولايات المتحدة، وتشتمل قائمة هؤلاء: تشارلز ويلسون بيل، وجيلبرت ستيوارت، وجون ترمبل، وتوماس سولي، وصمويل إف بي مورس.

عُرف ويست كأشهر رسام للأحداث التاريخية، وكان هذا أحد الأسباب المهمة في شهرته، أما السبب الثاني فيعود إلى أروع أعماله قاطبة وهي (وفاة الجنرال وولف 1770).. في هذه اللوحة، ابتعد ويست عن الأعراف المتبعة في الرسم في حينه، فرسم لوحة من حدث معاصر، جرت وقائعه قبل سبع سنوات فقط من إنجاز هذه اللوحة، وصورت جانباً من حرب السنوات السبع (المعروفة باسم الحرب الفرنسية والهندية في أمريكا الشمالية)، وهي اللحظة التي أصيب فيها اللواء جيمس وولف بجروح قاتلة.

جسدت لوحة «موت الجنرال وولف» فترة من فترات الاشتباك الشرس بين القوات الفرنسية والبريطانية في عدة قارات، من البحر الكاريبي إلى السنغال إلى الهند والفلبين.

في عام 1770، لم تكن أمريكا وكندا قد تأسستا بعد، لكن لوحة ويست، هي أول لوحة لفنان أمريكي تكتسب شهرة عالمية، تقف في أصل رواية العالم الجديد التي من شأنها أن تستمر بعناد في كلا البلدين لعدة قرون، تصور اللوحة التي أنجزها ويست عام 1770، معركة سهول أبراهام خارج مدينة كيبيك. كانت نقطة التحول في الحرب التي انتهت باستيلاء البريطانيين على المستعمرات الفرنسية من كيبيك إلى فلوريدا.

في اللوحة يتسلق الجنود بمعاطفهم الحمراء المنحدرات من النهر إلى السهل، كانت هذه استراتيجية وولف: إبراز التسلل إلى القمة ومفاجأة الفرنسيين، وفي الواقع، كان البريطانيون قد تسلقوا هذه المنحدرات في الظلام، قبل ساعات من تلقي وولف رصاصة قاتلة، لكن ويست يرسمها كلها معاً، كرؤية مكثفة للبطولة الوطنية والاستشهاد الفردي.

اللوحة

استندت اللوحة إلى أحداث حقيقية، وفي مركزها يظهر الجنرال جيمس وولف، قائد القوات البريطانية في شمال شرق القارة.. غيوم ثقيلة وسوداء في يوم حربي قاتم، مفعم برائحة الرطوبة ونيران الهاون، إنها بعد العاشرة بقليل من الصباح، حيث انتهت المعركة تقريباً، فيتراجع الجنود الفرنسيون الجرحى، ويموت جنرال شاب يرتدي معطفاً أحمر بعيداً عن إنجلترا، على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.

يوجد على معصم الجنرال الأيمن عصابة بيضاء ملطخة بالدماء، أصابت وولف رصاصة في وقت مبكر من المعركة، وتم تضميد الجرح من قبل رفاقه في المعركة، والرسم يظهر نواب الجنرال، وهم يحتضنون ذراعه اليمنى، يميل طبيب وسيم للضغط بقطعة قماش على جرح وولف، الذي ثقب رئتيه.

يظهر في اللوحة الملازم هنري برازن بالألوان البريطانية، وهو الشخصية الوحيدة في هذه اللوحة التي كانت في الواقع مع وولف في لحظات وفاته.. في الخلفية، إلى اليمين، نرى نهر سانت لورانس والسفن البريطانية التي انطلق منها الجنود بين عشية وضحاها.

إلى اليسار يوجد برج كنيسة مدينة كيبيك، محاطاً بالدخان، ويرتدي البريطانيون اللون الأحمر، والفرنسيون اللون الأزرق.

ثمة موفد بريطاني بسترة خضراء يهرول مسرعاً لإخبار وولف المحتضر بالنصر، وهو يميل لينقل إليه خبر استسلام فرنسا، تتدلى على ظهره حقيبة مزينة بالخرز والريش.

إثراء

وبينما يرتدي زملاء الموفد أحذية جلدية سوداء، يرتدي هو حذاء موكاسين مطرز بالخرز وأربطة فاخرة، إنه مستوطن أمريكي.

جاءت الأخبار في الوقت المناسب، وولف على وشك الموت في الثانية والثلاثين من عمره، لكن نبأ استسلام فرنسا جعلته في حالة من النشوة في الدقائق الأخيرة في حياته، فبدا وجهه مرحاً، وها هو يشعر بالسكينة، كما الشهيد في مشهد وعظي، هو يحتضر حتى تتمكن بريطانيا من حكم العالم.

حرض ويست على إثراء هذه الرسم بمشهد من مشاهد السردية الوعظية والأخلاقية التي أحاطت بكل مقتنيات وفنون وتراث الكلاسيكيات في ذلك الوقت، لكنه حرص على تحويل الأحداث الحقيقية للحرب بما فيها من رمزية أسطورية إلى مستويات أوبرالية، فعرض الشخصيات كما لو كانت في مجموعة من النحت الكلاسيكي، في دزينة من التعبيرات المؤلمة. حتى الغيوم المظلمة تحولت لتغمر الجنرال المحتضر بالضوء، وهناك سارية العلم الذي يقترب جزؤها السفلي من وجه وولف ويمتد نحو السماء، هنا، وولف محاط بالمعزين.. إنه نجم، نوع من الخيال المثالي للعالم الجديد، إنه صورة مهيبة وشاهدة على أحداث دراماتيكية.

إلى يمين وولف، يجلس رجل من (قبائل الموهوك) من أمريكا الشمالية هو الشخصية الأبرز في اللوحة إلى جانب وولف نفسه، بجانبه بندقية وفأس، وعلى ظهره على جانبي عموده الفقري، توجد وشوم أو رسومات للأفاعي، يضع رأسه على يده في لفتة اعتراف وحزن، هذا الرجل يمثل صورة من الصور الأخيرة لأمة الموهوك، التي تحالفت مع البريطانيين في الحرب. على عكس الرجال الآخرين في اللوحة، لا يمكن التعرف عليه بالاسم، إنه يمثل هنا نموذجاً لما يسميه الأوروبيون «المتوحش النبيل».

وقد اخترع ويست هذا المحارب المجهول، ولكن ليس بدون بحث، كان يمتلك العديد من الأشياء التي صنعها سكان الغابات الشرقية، والتي هي الآن ضمن مجموعة المتحف البريطاني.

يظهر الرجل مقوس الظهر ويضع رأسه على قبضته، يبدو متأثراً أكثر من أي شخص آخر في اللوحة، إنه يحدق في وولف كما لو كان في طقس تشييع لأحد الرموز الكبار.

براعة

لم تعكس «موت الجنرال وولف» إحساساً فنياً عند ويست فحسب، بل شكلت في حينه حدثاً إعلامياً واسعاً، فقد امتدت فرص مشاهدة هذه اللوحة في معرضها الأول في لندن إلى الخارج، وتم تداول على مائدة نقاش الخبراء والفنانين في جميع أنحاء بريطانيا ومستعمراتها، وأصبح مزيج ويست القوي من التاريخ وصناعة الأساطير، من الإشارات التي تعزز الوجود البريطاني الميلودرامي في العالم الجديد.

تحتل هذه اللوحة مكانة مرموقة في تاريخ الفن الأمريكي، ومن خلالها يعيد ويست تفسير قواعد وأسس ما يمكن أن تكون اللوحة التاريخية من حيث زمانها، فيحرص على تصوير الشخصيات بالزي الحقيقي وفي ذات الوقت يعنى بتكوين لغة بصرية كانت مألوفة لجمهور القرن الثامن عشر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/24m8r4av

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"