عادي
واقعية متقشفة تهز المشاعر

«أيتام».. الفن عزاء البسطاء

20:16 مساء
قراءة 4 دقائق
لوحة «أيتام»

الشارقة: علاء الدين محمود

الإبداع يعبر عن الحياة وينتمي إليها، والفنون البصرية على وجه التحديد، ترصد الواقع والتفاصيل الاجتماعية بمختلف أشكالها، حيث إن المجتمع نفسه ينقسم إلى ألوان من البشر، يختلفون في طريق عيشهم، ولعل حياة الفقراء قد لقيت الكثير من الاهتمام من الفنانين العالميين، حيث كان عيش البؤس والحرمان والألم دافعاً لمبدعين لم تعبر لوحاتهم عن هؤلاء الفقراء فقط، بل كانت ملاذاً لهم كما كان الفن نفسه عالماً موازياً لهؤلاء المحرومين.

يعد الرسام البريطاني توماس بنجامين كينينجتون «1856 – 1916»، واحداً من الفنانين العالميين الكبار، وهو من أنصار التيار الواقعي الاجتماعي وكان عضواً مؤسساً في نادي الفن الإنجليزي الجديد ورابطة الفنون الإمبراطورية، التي كان هدفها المعلن هو حماية وتعزيز مصالح الفنانين وتقديم المشورة لهم والمساعدة والدعم، وهو والد الفنان والنحات إريك هنري كينينجتون الشهير بفنان الحرب.

1
توماس بنجامين كينينجتون

ولد كينينجتون في غريمسبي في لينكشاير، وتدرب على الفن في مدرسة ليفربول للفنون، حيث فاز بميدالية ذهبية، وكذلك الكلية الملكية للفنون في لندن، وأكاديمية جوليان في باريس، حيث درس تحت إشراف كل من الفنانين بوجيرو وروبرت فلوري، ثم انتقل لاحقاً إلى تشيلسي في لندن، وقد عرض أعماله في الأكاديمية الملكية بلندن من عام 1880 إلى عام 1916، ويعد من الفنانين أصحاب الرسالة تجاه مجتمعاتهم، وتمتع بسيرة مهنية مميزة، وكان مصدر إلهام للآخرين بصفته عضواً في جماعة «سانت جون وود»، وهي مجموعة من الفنانين في ذلك الجزء من لندن كانوا مهتمين برسم التاريخ وخاصة في «المواقف الخيالية التي استحوذت على مزاج العصور الماضية».

وتعد لوحة «أيتام»، التي رسمت عام 1885، من أشهر الأعمال الفنية لكيننجتون، حيث لقيت صدى كبيراً حول العالم، واعتبرت من الأيقونات الفنية، ولها شهرة شعبية واسعة حيث علقت على حوائط البيوت والمكاتب والمقاهي والأندية، ذلك لأنها تعبر عن عوالم الأيتام والفقراء، وتصور حياة البؤس، وهي تنتمي إلى منهجية وأسلوبية كينينجتون، حيث أن لهذا الرسام العديد من اللوحات المؤثرة التي تتناول الكادحين والمنسيين والقابعين في أدنى درجات السلم الاجتماعي في إنجلترا بطريقة تثير مشاعر المتفرج، مثل: «الأرامل والأيتام»، و«بلا مأوى»، و«قصة الفقر»، وتعد لوحة «أيتام»، امتداداً لتلك الأعمال العظيمة التي هي خلاصة تجربة وتأمل الفنان في عالم البؤساء، إلى جانب أعمال مثالية تصور الحياة المنزلية اليومية.

اشتهر كينينجتون في الجزء الأول من حياته المهنية بمواضيعه الواقعية الاجتماعية المنفذة بأسلوب فرنسي، وفي الرسم الفيكتوري ظهر موضوع الحياة الأسرية بقوة، فالمدرسية الواقعية تعمل على تصوير الواقع دون إضافات كثيرة، كرسالة يقدمها الفن في تسليط الضوء على الظواهر والعادات السلبية في المجتمع.

وقد ذكر كثير من النقاد والمشتغلين في مجال الفنون، أن هذه اللوحة تمتلك قدرة فائقة على التأثير في مشاعر وعواطف المشاهدين، ويرجح كثير منهم أنها تعد من اللوحات التي تظهر تأثر كينينجتون، بالرسام الإسباني بارتولومي إستيبان موريلو «1618-1682»، والذي عرضت أعماله كذلك وصورت حياة أطفال الشوارع، وربما يعبر هذا العمل عن ذلك الانفعال والتفاعل الكبير لكينينجتون بتلك الطبقات الاجتماعية المهملة، فقد عمل على إبراز مشاعر الحزن والشجن ببراعة بحيث تتسرب إلى المشاهد.

  • وصف

اللوحة تحاكي الواقع بإتقان شديد، دون أن تنزلق إلى درجة النقل والمباشرة الفجة، والتي غالباً ما تكون بلا روح، حيث يظهر العمل تفاعل وتأثر الفنان وصدقيته، ويظهر في مشهد اللوحة طفلان فقيران بملابس بالية قذرة، الأمر الذي يوحي بالبؤس الشديد، في غرفة بديكور هو الآخر يعكس مدى الفقر، حيث لا يوجد شيء له قيمة غير الحائط المتسخ والمشقق، والأرضية الخشبية، بينما يظهر قدر قديم إلى جانب الطفل في يسار اللوحة، وفي الأمام هناك صحن عليه بقايا قطعة خبز، وقد فرغ من الطعام، ويظهر في الحائط كذلك رف فارغ من أي شيء يعطي الانطباع بأنهم لا يملكون شيئاً من سقط المتاع.

ولعل براعة الفنان في هذا العمل الفريد، تكمن في إظهار مشاعر الطفلين، من حيث الإحساس بالحيرة وثقل أوجاع الحياة، وفي ذات الوقت التضامن وكأن هذين الطفلين هما جسد واحد إذا اشتكى أحدهما تداعى له الآخر بالألم والوجع، فالولد الصغير يرقد على الأرض وهو يضع رأسه على قدم أخيه الذي يجلس إلى جانبه ويتكئ على الحائط، حيث يضع الطفل الكبير يده على يد أخيه الصغير وكأنه يمده بالحنان والأمل.

وتبدو خدود الولد الصغير شديدة الاحمرار ولا يبدو ذلك كنتاج للصحة أو الشبع، بل بفعل الجفاف في وجهه مما يجعله محمراً مشققاً، مما يزيد من أوجاع هذا الطفل الذي ينظر إلى الفراغ وكأنه قد فقد الأمل في كل شيء، حيث يبدو من تلك النظرة أن فيهما خوفاً من المستقبل، كما تظهر بوضوح التعب والإرهاق بسبب الجوع.

شعر كل طفل منهما في اللوحة مشعث، ويبدو أن الجدار الذي خلفهما كان أبيض، ثم بدأ يصفر بفعل الأوساخ وتراكمها إلى أن صار يقترب تدريجياً من درجات اللون الأسود، كما أن الأرضية متشققة بفعل العفن والرطوبة، مما يشير إلى أن هذه الغرفة لم تدخلها الشمس منذ زمن طويل، حيث لا يلمح المشاهد أية بقعة ضوء تأتي من أية زاوية في الغرفة، وهذا الأمر يؤثر في الطفلين ومسكنهما.

  • توظيف

تظهر براعة الفنان في استخدام وتوظيف ضربات الفرشاة، بحيث يتسرب إحساس إلى المشاهد بأن اللوحة عبارة عن صورة فوتوغرافية التقطت حديثاً، وتظهر فيها كل التفاصيل بصورة قريبة وواضحة، ويظهر فيها ذلك الألم الشديد والحرمان، كما تظهر في هذا العمل تلك الطاقة الإبداعية الكبيرة لدى الفنان والمتمثلة في توظيف وتوزيع الألوان والتعامل السلس مع الطلاء من أجل خلق حالة فنية وإنسانية متميزة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yck2uatm

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"