عادي

عصر السرعة يسرق روح القراءة

23:43 مساء
قراءة 6 دقائق
عصر السرعة يسرق روح القراءة
لوحة لفان جوخ

الشارقة: علاء الدين محمود

بات كل شيء في العصر الراهن يعتمد على السرعة والاختصار، لم يعد للتمهل مكان في الواقع اليومي، وربما ينطبق ذلك الأمر حتى على الأدب والثقافة والكتابة والقراءة، فهنالك كتب حول القراءة السريعة، ومواقع تختصر عدد الكلمات بحيث لا يستطيع الناشط فيها أن يكتب إلا عدداً قليلاً من الجمل، وأخرى متخصصة في التلخيص، ذلك لمظنة أن القراء ما عادوا يتحملون مطالعة المقالات الطويلة، أو المواد الثقيلة، ولكن هل ذلك الأمر صحيح، أم هي محاولة للتطبيع مع روح العصر؟

يقول محمود درويش: «القهوة لا تُشرب على عجل/ القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل»، وهي مقولة بمثابة التمرد على روح العصر، ودعوة للتمهل، فبعض الممارسات لا تتم إلا عبر العمل والتفكير الهادئ الدؤوب، ومنها القراءة كعملية ذهنية تعتمد بصورة أساسية على الوقت من أجل الفهم والاستيعاب والهضم، وبالتالي تتحول المادة المقروءة إلى أفكار جديدة، حيث إن هنالك عمليات من التفكير والتحليل والرغبة في التفسير والتفكيك تجري في عقل المرء أثناء عملية الاطلاع على الكتاب، إذ إن القراءة هي العتبة الأولى لفهم العالم المحيط،، وعبرها يبني الإنسان واقعاً جديداً يقطع مع الجهل، حتى أصبحت مفردة «قراءة»، موازية لكلمة تفسير، فإذا كانت مسيرة الإنسان في الأرض هي تفسير الوجود، ومغاليقه، فإن القراءة هي المعين الأساسي في عملية الاكتشاف والتغيير كذلك، وهذا يتطلب أن يتم الأمر بعيداً عن الصخب، في هدوء ومهلة من الزمن.

ولئن كانت القراءة المتعمقة المتأنية تقود إلى الغاية المنشودة من الفهم الصحيح، فإن النقيض من ذلك يحدث مع القراءة المتعجلة السريعة، فهي تربك المتلقي، وتمده بالمعلومة والفكرة الناقصة غير المكتملة، بل يعمل ذلك الأمر على تشويه معاني الكتاب وتضييع مقاصد المؤلف، والقراءة السريعة المسؤولة عن صناعة أنصاف المثقفين الذين لا يصبرون على القراءة، وفيهم من يكتفي بمطالعة ما كتب من مختصرات وموجزات عن الكتاب، أو الاكتفاء بمقدمته فقط.

طقوس

هنالك طقوس وعادات متعلقة بالقراءة، حيث إن القارئ الجيد هو من يحضر نفسه لعملية القراءة من خلال تجهيز المكان والورق لتدوين الملاحظات، وهي طقوس قد تختلف من شخص لآخر، وهنالك الكثير من الفلاسفة والأدباء الكبار على مستوى العالم الذين اشتهروا بطقوس محددة أثناء ممارسة القراءة، لكونها عملية شاقة ومرهقة ولكن لابد منها، فهي أشبه بثمرة كبيرة والمطلوب هو أن تلتهمها كلها، حتى تتم الفائدة المعرفية، ولئن كان البعض يختصر المسافات لكي يصل إلى المعنى بسرعة، فإن ذلك من شأنه أن يهدم متعة القراءة، فالمعنى لا يضعه المؤلف في الجملة الأخيرة قبل أن يضع نقطة الختام، بل هو يسري بين النصوص والمقولات والجمل والمفاهيم التي يضمها الموضوع المعين، وكذلك فإن القراءة السريعة تبدد من مسألة الاستمتاع بجماليات اللغة والأٍسلوب والحوار وغير ذلك من أشياء مهمة في الكتاب.

تنافس

صارت الدعوة للقراءة السريعة تؤلف حولها الكتب التي تشبه مؤلفات التحفيز واكتساب المهارات، واحتشدت المكتبات بمثل هذا النوع من الإصدارات، وهنالك العديد من المدربين أو الكتاب قد تخصصوا في التأليف عن كيفية القراءة السريعة بل ووضعت لها موجهات وقوانين، فهناك كتاب، «مهارات القراءة السريعة»، للكاتبين إيفلين وود وجوبيس تيرلي، وهو مترجم إلى العربية، ويشير هذا الكتاب إلى أن «القراءة السريعة أصبحت من الأمور المطلوبة في عصرنا الحاضر وتوفر لنا الكثير من الوقت، تستطيع أن تزيد من سرعة قراءتك ببذل القليل من الجهد»، وبالطبع فإن مثل هذه المؤلفات تجاري الموضة؛ وتعتمد على الكثير من المغالطات، وهي تعمل على التحريض على «التنافس»، الذي هو أيضاً من سمات العصر، حيث يتسابق الناس على زيادة معارفهم من أجل التنافس في «سوق»، العمل، فيلجؤون إلى مثل هذا السراب المتمثل في نوعية تلك الكتب، كما يخلط الكتاب بين القراءة المتخصصة والاطلاع من أجل التثقيف، عندما يشير إلى أن الطلاب في المدارس والجامعات تشكل القراءة بالنسبة لهم نشاطاً أساسياً، فمثل هذا النوع من التحصيل الأكاديمي يكون دائماً من أجل لحظة معينة وهي النجاح في الامتحانات، لذلك فالقراءة في هذه الحالة تعتمد فعلاً على السرعة، ولكن الحال تختلف في وضعية القراءة من أجل التثقيف وزيادة المعارف.

بضاعة

مثل هذه الإصدارات تجعل القراءة مثلها مثل أي نوع من البضاعة، بحيث يقبل عليها المتلقي مجبراً، وهذا يتناقض مع فكرة المعرفة بصورة أساسية والتي تنطلق من الحب والشغف، فالقراءة مثل لقاء الحبيب تتمنى فيها أن يتجمد الوقت ولا يمضي، فمثلما يستمتع المحبون بكل لحظة في اللقاء، فإن القارئ كذلك يتلذذ بكل كلمة أو فكرة عادية أو غريبة، بل وقد يستبد به الطرب لدرجة عدم المقدرة على المواصلة في الاطلاع، فيطوي الكتاب ليعود إليه بعد حين، فالقراءة هي عالم السحر والدهشة، حيث إن قراءة أي كتاب، هي عملية تفكيكية تتابع الموضوع منذ بداياته ومنعطفاته وصعوده، حتى وصوله إلى المعنى، فموضوع أي كتاب هو عبارة عن دهاليز ومجاهيل يخوضها الكاتب، ولابد للقارئ أن يكون ملماً بكل شاردة وواردة فيها، ومن هنا جاءت مقولة «موت المؤلف»، حيث أصبح القارئ هو المبدع وهو سيد الموقف من حيث التحليل وتكوين الأفكار والتأويل، ولكن بالطبع ذلك هو القارئ الذكي غير المتعجل.

اضطرار

وهنالك كتاب «الانطلاق في القراءة السريعة»، للمؤلف بيتر كومب، وهي أيضاً من الإصدارات المترجمة، وهو كتاب تعليمي؛ يهدف إلى زيادة التحصيل الأكاديمي استعداداً للامتحان، بالتالي فإن مثل هذا النوع من الكتب له غاية معينة، ولكن يتم التعامل معه من قبل الكثيرين كخريطة طريق لتعلم القراءة السريعة، والواقع أنه حتى في حالة استذكار الدروس، فإن التمهل والتدبر مطلوب بصورة أكبر من أجل الفهم، ولكن لأن السائد في معظم المناهج التعليمية سواء في بلداننا العربية، أو الكثير من دول العالم الأخرى هو سياسة «التلقين»، وهو من العيوب الكبيرة في مجال التعليم والذي تكون نتيجته المحتومة كائنات متعلمة ولكنها في معظمها غير مثقفة، والخطورة تكمن في أن هذه السياسة لا تحبب البشر في القراءة التي يلجؤون إليها مضطرين من أجل التخلص من جهلهم بالكثير من الأشياء.

وهنالك العديد من المؤلفات العربية عن كيفية القراءة السريعة ومعظمها لمدربين في مجالات التحفيز والتنمية البشرية، مثل كتاب «خطة القراءة السريعة»، للمدربة منى السيد، وكتاب «القراءة السريعة سؤال وجواب»، للمدرب أحمد راغب، وغير ذلك من الإصدارات إضافة إلى عشرات بل مئات الكتب المترجمة، وهي شبيهة بالمؤلفات التي تحمل عناوين مثيرة على شاكلة: «كيف تصبح ثرياً؟»، و«كيف تتعلم الإنجليزية في بضعة أيام»، و«أسرار السعادة»، وغيرها من المؤلفات التي تداعب رغبات البشر وأمانيهم بتحقيق أحلامهم بصورة سريعة.

اعتقاد شائع

بالإضافة إلى الكتب والمؤلفات والإصدارات، نجد أن هنالك مواقع للتواصل الاجتماعي، قد تخصصت في هذا الأمر، أو على الأقل حرضت عليه بطريقة غير مباشرة، فموقع مثل «X»، «تويتر» سابقاً، لا يقبل الكتابة بعدد كلمات كثيرة، وهو يعزز الاعتقاد الشائع بأن القارئ لا يلتفت إلى المقال المطول، حيث انتشرت ظاهرة المواقع المتخصصة في تلخيص الكتب والمؤلفات، فهنالك التلخيص المكتوب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل: «X» و«فيسبوك»، وغيرها، وهنالك المسموع والمشاهد في قنوات ال«يوتيوب»، و«التيك توك»، وتطبيقات الهواتف المحمولة، بل كذلك مجموعات متخصصة في عملية التلخيص على نحو ما يفعل موقع «بوك بريف»، والذي يقوم باختصار أشهر الكتب العالمية فيما يراوح بين «8 و10»، صفحات باللغة العربية، ويعمل الموقع على تلخيص 4 كتب في الشهر، ويقدم ملفاً للمؤلفات المسموعة، إضافة إلى قناة «ملخصات الكتب»، التي تعطي نبذة مسموعة عن المؤلف المعين، مع تقديم بعض وجهات النظر عن ذات الكتاب، وهنالك تطبيق «أخضر»، ويقدم ملخصات لمئات الكتب في شكل نصوص مكتوبة ومسموعة مدتها 10 دقائق فقط، وكذلك تطبيق «بلينكست»، الذي يعمل على توفير خدمة التلخيص للقصص غير الخيالية، في 15 دقيقة فقط.

ولكن هذه المواقع والكتب التي تعمل على تلخيص المؤلفات نجحت في اتجاه آخر، وهو إعادة الاعتبار للقراءة غير السريعة، حيث إن القارئ الذي يطلع على التلخيص، ربما يغريه الكتاب ويعمل على قراءته بصورة أكثر تركيزاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yxzhvnsn

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"