عادي

«المصباح المنير».. اللغة في خدمة الشرع

23:32 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

العالم اللغوي والفقيه أحمد بن محمَّد بن عليّ المُقْرِئ، والمعروف ب «أبو العبَاس الفيُّومي» (1291م - 1368م)، هو مؤلف معجم «المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير»، وهو أيضاً إمام وخطيب، ولد ونشأ بالفيوم بمصر، حيث درَس وبرع في الفقه واللغة، وذاع صيته واحداً من أشهر من يمتلكون ناصية اللغة العربية، سواء في الكتابة أو في الكلام والارتجال على المنابر والتأثير في السامعين.

من أهم شيوخِه أبو حيّان محمّد بن يوسف النّحوي الغرناطي، الذي تعلّم عليه علوم اللُّغة العربية، وواصل بعده مسيرة التعلم، فاطّلع على الكثير من علوم الثقافة العربية والإسلامية، مثل: القراءات، والفقه الشافعي، ليمتلك موهبة لافتة في الخطابة، ويكون له قبول منقطع النظير، ثم غادر الدّيار المصريّة ليستقر في مدينة حماة السورية، ولما أنشأ صاحب حماة الملك المؤيد إسماعيل عماد الدين الأيوبي الملقب بأبي الفداء جامع الدَّهْشَة سنة 727ه اختار أبا العباس الفيومي ليكون خطيباً فيه، وهو والد القاضي محمود بن أحمد أبو الثناء الهمذاني الفيّومي، الشهير بابن خطيب الدهشة.

ألف الفيّومي العديد من الكتب، وفي مجالات مختلفة، أشهرها معجم «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، و«ديوان خطب»، و«شرح عروض ابن الحاجب»، و«نثر الجُمان في تراجم الأعيان»، و«مختصر معالم التّنزيل للبغويّ حسين بن مسعود».

دلالات

تعود جذور قصة تأليف معجم «المصباح المنير» إلى كتاب الإمام الغزالي «الوجيز» في فقه المذهب الشافعي، الذي حظي بعناية كبيرة من طرف علماء ذلك المذهب، وكان من أهم شروحه كتاب الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، المُسمّى «فتح العزيز على كتاب الوجيز» والمعروف ب«الشرح الكبير»، ولأن العالم الفيّومي جمع بين التخصص في علوم الفقه واللغة، فقد قرّر وضع معجم لغوي يتناول فيه الألفاظ الغريبة والعبارات المُشكِلة التي وردت في كتاب الإمام الرافعي «فتح العزيز»، فألف من ذلك كتاباً كبيراً، مضيفاً إليه شروحاً وزيادات من غيره؛ إذ اعتمد في ذلك على نحو سبعين مصنفاً ما بين مُطوَّل ومُختَصر، من بينها: «تهذيب اللغة» للأزهري، و«مُجمل اللغة» لابن فارس، و«إصلاح المنطق» لابن السِّكيت، و«ديوان الأدب» للفارابي، و«الصِّحاح» للجوهري، و«أساس البلاغة» للزمخشري.

ولكن ذلك المؤلَّف كان ضخما جداً، حيث توسّع فيه الفيّومي كثيراً، وذكر أوجه تصاريف الكلمات والألفاظ المشتبهات والمتماثلات، وضمّنه إعراب الشواهد وبيان معانيها، وغير ذلك ما يشكّل ثروة لغوية هائلة للمشتغلين في علوم اللغة والأدب، فأدرَك أن كِبر حجمه وكثافة مادته قد تكون عائقاً دون استفادة الكثيرين منه، فقام باختصاره وتبسيطِه ليسهل تناوله، فانتهى على الصورة التي أخرجه للناس بها، وسمَّاه: «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، ليصير منذ ظهوره واحداً من أهم المعاجم اللغوية التي تهتم بالمصطلحات الفقهية أكثر من غيرها، فقد أكثر فيه من الاستشهاد بالأحاديث النبوية، وشرح المعاني الفقهية إلى جانب المعاني اللغوية، وتوسّع في ذكر المشتقات، وحرص على الإشارة إلى أبواب الأفعال، وأكثر من ذكر جموع الأسماء والصفات، وفصَّل كثيراً من المسائل اللغوية والصرفية والنحوية، واهتم بضبط حروف الكلمات ضبطاً دقيقاً.

ويرى الدارسون أن هذا المعجم كان نموذجاً لربط الدلالات اللغوية بالدلالات الفقهية، حيث عرَض للكثير من القضايا الشرعية المبنية على أساس لغوي، وهو ما يعكس المرونة التي تتمتع بها اللغة العربية لمواكبة المستجدات في كل عصر، وذلك من خلال الدور الوظيفي الذي تلعبه الألفاظ في التواصل بين الأفراد، بتغير دلالاتها، وقال عنه ابن حجر العسقلاني: «هو كتاب كثير الفائدة حسن الإيراد، وقد نقل غالبه ولده في كتابه (تهذيب المطالع)».

ترتيب

رتَّب الفيومي معجمه الجديد على حروف الهجاء، مراعياً الحرف الأول فالثاني فالثالث، حيث يرى بعض الباحثين أنه سار على نهج الزمخشري في كتاب «أساس البلاغة»، ثم قسّم كلّ حرف منه بحسب اللفظ إلى مكسور الأول ومضمومه ومفتوحه، وإلى أفعال بحسب أوزانها، وقد راعى في منهجه بعض القواعد، مثل: تجريد الكلمة من الزوائد مراعياً الأصول، ورَدّ الحروف المنقلبة إلى أصلها، وكذلك رَدّ الحروف المحذوفة، كما اهتم بضبط الكلمات، لا سيما عند ذكر الألفاظ المشهورة، كأسماء المدن والبشر، وذكر المصادر الصرفية للكلمات.

ومن أهم ما يميز هذا المعجم عن غيره، حرصه على الابتعاد عن التصحيف والتحريف، وذلك بالعناية بضبط الألفاظ، واهتمامه بالنواحي النحوية والصرفية، وأمانته العلمية، بإيراده للمصادر والأشخاص الذين نقل عنهم، كما يتميّز بسهولة تصفحّه والوصول إلى المواد اللغوية الموجودة فيه، وهو بتلك المميزات مصدر سهل وموثوق لكل المهتمين بالبحث في معاجم اللغة العربية ومفرداتها، وكانت بعض الجهات الحكومية العربية قررته في مدارسها، مثل وزارة المعارف العمومية بمصر، التي أدخلته في حقبة سابقة في منهج المرحلة الثانوية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35f5kzyd

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"