«الثلث الجلي».. الخط لحظة جمال

الشارقة: جاكاتي الشيخ

تسهم الدراسة الأكاديمية المعمقة للخط العربي في حمل المبدعين على تقديم أعمال مميزة، وخاصة إذا جمع الفنان بين دراسة الخط ودراسة الزخرفة الإسلامية، ما يضفي على عمله جمالية متشحة بالبهاء، ومن هؤلاء العراقي روضان بهية، الذي قدم الكثير من الأعمال التي تمزج بين الخط والزخرفة أو تستلهم تكويناتها منها.

روضان بهية

يتميز روضان بهية بقدرة عالية على كتابة الحرف العربي بأصوله، كما يتميز بقدرة موازية على إبداع الزخارف المبتكرة بأسلوب غاية في الدقة والجمال، بالإضافة إلى عمق في اختيار مضامين اللوحات، وهي قدرات وصل إليها بفضل عمله الدؤوب، وبعد تجربة كبيرة في دراسة الفنين وتدريسهما، تجسدت موهبته بقوة مستواه الأدائي والتعبيري، وعبرت عن تمكنه من مختلف أنواع هذا الفن، بتراكيبه وتكويناته التقليدية والمستحدثة، بما فيها المبتكرة من طرفه، وخاصة في خط الثلث الجلي الذي كتب به اللوحة المعروضة بين أيدينا.

* دلالات

كتب روضان بهية في هذه اللوحة نص آيات قرآنية من سورة التكوير، يقول فيها جل من قائل: ﴿إنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٍ كَرِیمࣲ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلعَرشِ مَكِینࣲ مُّطَاعࣲ ثَمَّ أَمِینࣲ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجنونࣲ﴾، وقد كتبها بخط الثلث الجلي لما يتميز به من جمالية بصرية، مستفيداً لتكوينها من خلفيته في فن الزخرفة، حيث وزّع النص في اللوحة بطريقة يستلهم فيها المنمنمات التزيينية، مراعياً في ذلك دلالات النص المكتوب، وملتزماً بخصائص الثلث الجلي على أصوله، من متانة في التركيب ووضوح في كتابة الحروف والكلمات، مع تشابكها ومزج بعضها واختزاله في البعض الآخر، والاجتهاد على ملء الفراغات بالحركات والشدّات والنقاط، وغير ذلك من المميزات الجمالية البادية للمشاهد.

أما مضمون نص الآيات المكتوبة، فهو حديث عن القرآن الكريم، وجبريل عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن العظيم وحي بعث الله به ذلك المَلَك الكريم رسولاً إلى النبي في الأرض، وقد وصفه بالكريم لحسن هيئته، كما جاء في موضع آخر من القرآن، كما وصفه بالقوة وشرف المكانة عند ربّه، وبأنه مُطاع من طرف الملائكة لتأدية مهمته الجليلة، وأمين على تأديتها لرسل الله عليهم السلام، وبعد كل ذلك الوصف لعظم شأن جبريل يقول الله لعباده؛ الذين كان يخاطبهم من خلال أهل مكة، إنّ صاحبهم الرسول محمداً ليس بمجنون، وقد قال «صاحبكم» لأنه يعلم معرفتهم به، وبعدم جنونه، وكلها مضامين حاول روضان بهية تشكيلها خطياً في اللوحة.

* هيئة

وقد أنشأ روضان بهية الشكل التكويني للوحته على هيئة سماء وأرض، فجعل المستوى العلوي سماءً للشكل الخطي، خط فيه الآيتين اللتين تصفان جبريل وعلاقته العلوية بالله جل جلاله، وكأنهما مدار حول الأرض، حيث كتب كلماتهما بطريقة عادية دون تركيب، بادئاً بالآية الأولى ﴿إنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٍ كَرِیمࣲ﴾، مستقلةً في الجانب الأيمن، ليركز المشاهد على مضمون وصف جبريل فيها، ثم ترك مسافة، وكتب في الجانب الأيسر الآية الثانية ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرشِ مَكِینࣲ﴾، مستقلة كذلك، ليركز المشاهد على مضمونها الخاص أيضاً، بينما جعل المستوى الأخفض على شكل الأرض، وخط فيه الآية التي تصف مهمة جبريل في توصيل الوحي، والآية التي تصف رسول الله بعدم الجنون، وقد كتب هذا الجزء من اللوحة بتركيب جَلِيٍّ، بدأه من الأعلى بكتابة الآية الثالثة ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِینࣲ﴾، حيث كتب «مُطاع» وأتبعها ب «ثَمَّ» التي ركبها عليها، للدلالة على أن جبريل مُطاع في تأدية مهمته، وأتبعهما ب «أمين»، فهو ثقة الله لتأدية تلك المهمة، ثم كتب «وما» مازجاً بين حرفي الواو والميم، في واحدة من أصعب وأندر خصائص الثلث الجلي، وكتب «صاحبكم» مُركباً مقطعيها فيما بينهما وشابكاً كافها ب «مُطاع ثَم»، وكأنه ينبه إلى صحة رسالة الرسول محمد بعلاقته بالمَلَك المرسل جبريل، وكتب «بمجنون» تحت «أمين» مباشرة، وشبكهما بلام «صاحبكم» الممدودة، ليوحي بأن هذا الرسول الذي يصفه قومه بالجنون، هو نفسه الذي كانوا يصفونه ب «الأمين».

وقد كتب النص باللون الأبيض لما يرمز له من تحمل للأمانة، واختار للخلفية اللون الأزرق لما يرمز له من ثقة وضعها الله في جبريل ورسول الله محمد، ومن مسؤولية كانا على قدرها، ومن صدق وإخلاص فيما قاما بأدائه من مهام تلك الأمانة الربانية.

* إضاءة

روضان بهية من مواليد بغداد 1952، كان يتواصل في بدايته مع بعض الخطاطين العراقيين المَهَرَة ليُصَوِّبوا لوحاته الخطية، ما أسفر عن صقل موهبته وتقويمها، ودرَس في قسم الفنون التشكيلية بجامعة بغداد، وفي سنة 1989 حصل على شهادة الماجستير وفي سنة 1998 حصل على شهادة الدكتوراه، وعمل مدرساً للخط العربي في معهد الحِرَف والصناعات الشعبية، كما عمل أستاذاً لمادتي الخط العربي والزخرفة والتصميم، في قسم الخط العربي والزخرفة، في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، وشغل رئاسة نفس القسم، وشغل منصب رئيس جمعية الخطاطين العراقيين ما بين 2006 و2023، وعضوية لجنة تحكيم المسابقة الدولية لفن الخط (إرسيكا) في إسطنبول، ولجنة تحكيم ملتقى رمضان لخط القرآن الكريم في دبي، وخطَّ القرآن الكريم بخطي الثلث والنسخ في العاصمة البريطانية لندن سنة 1993، وله أعمال خطية تزين صالات المعارض العالمية للخط العربي والزخرفة، كما حصل على عدة جوائز في المجال، وشارك في العديد من المعارض الخطية المحلية والدولية.