اختفاء النخب التقليدية

03:10 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

علق الناقد والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو يوماً على مواقع التواصل الاجتماعي بأنها تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى الذين ينصت إليهم الآخرون، وكأنهم فازوا بجائزة نوبل، وشبّه إيكو تلك الحالة ب «غزو البلهاء»، لا يخرج كلام إيكو كثيراً عن النقد الذي يوجهه الكثيرون يومياً إلى تلك المواقع، ولكن هذا النقد نادراً ما يتطرق إلى مسألتين ترتبطان في العمق بصعود تلك المواقع، وهيمنتها ليس على «الواقع الافتراضي» وحسب، ولكن على مختلف أوجه الحياة، كما نعيشها ونمارسها على الأرض.
المسألة الأولى تتمثل في تراجع دور النخب على المستويات كافة، خاصة الفكرية والاجتماعية والثقافية، حيث توقفت هذه النخب في الحقيقة عن إنتاج الأفكار التي كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس، لقد بشرتنا حقبة التسعينيات من القرن الماضي بحزمة من النهايات: نهاية الفكر، نهاية التاريخ، نهاية المثقف ..إلخ، وكان لسان حال النخب يقول: «لا جديد»، ولم يمر العقد الأول من الألفية الجديدة، إلا وكان الصمت هو بطل المشهد الفكري، وانعكس ذلك على الوسائل الطبيعية التي تنتشر من خلالها الأفكار: وسائل الإعلام، ونوعية الكتب التي تصدر، والتي يتضاءل فيها السياسي والاقتصادي والفلسفي لمصلحة الروائي والحكائي، تتراجع فيها الأفكار الكبرى التي يلتف حولها البشر، في مقابل طغيان الكتابات التي تتحدث عن هموم الذات الصغيرة واليومية، وتختفي فيها أطروحات النخب إزاء كل ما هو مسطح وسريع وعابر ولا ينفذ إلى جوهر الأشياء.
المسألة الثانية، تتطلب ضرورة مراجعة النخب، كافة، للأطروحة التاريخية التي نادت بها الأغلبية العظمى من مفكري العالم وفلاسفته، والتي تقول بحق كل إنسان في الوصول إلى المعلومات، وحريته في التعبير عن رأيه. لقد تحققت تلك الدعوة بفضل وسائل الاتصال الفائقة الحداثة، وأتاحت الشبكة العنكبوتية المعلومات للجميع، وسمحت مواقع التواصل للكل بحرية الكتابة، حتى وصلنا إلى تلك الحالة المنفلتة التي نشاهدها ونحن نتجول في تلك المواقع، ولكن السؤال هنا: هل يحق لهذه النخب أن تتباكى اليوم على ما طالبت به كثيراً؟
الأكثر إثارة للأسى، أنه حتى لو راجعت تلك «النخب التقليدية» مواقفها، فإنها لن تستطيع أن تفعل شيئاً، فمصيرها نفسه أصبح الآن على المحك، فمواقع التواصل في انتشار مستمر وتقدم لا يتوقف، وتأثيرها طال حتى هذه النخب نفسها، ويبدو أنه لن تمر عقود قليلة إلا وتختفي ظاهرة «النخبة التقليدية» نفسها، حيث ستفرز تلك المواقع «نخبها الخاصة»، أما طبيعة الأطروحات التي سُتنتجها النخب الجديدة وأساليبها في الحوار و طرائق إدارتها للصراع الفكري ومستوى الجمهور المتلقي، والفضاء الاجتماعي الحاضن لكل ذلك، فيبدو أن مقدمات ما نراه الآن لا تبشر بالخير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"