أوطان طاردة لأهلها

02:55 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

المتتبع لتقلبات الساحة العربية خلال القرنين الماضيين، أو تحديداً منذ تفتح وعينا على ضرورة النهوض واللحاق بالأمم المتقدمة، بإمكانه ملاحظة تلك البيئة التي تميز الكثير من أقطار الوطن العربي وتتزايد فيها وتيرة معدلات الهجرة، ويبدو أنها أصبحت في السنوات الأخيرة بيئة طاردة لأهلها.
تأسس مشروع النهضة العربية، والذي تطور لاحقاً إلى مشروع قومي على أهمية السفر من أجل التعلم والاطّلاع على تجارب الآخرين، ثم العودة والإسهام بفاعلية في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية.
بدأت أهمية السفر وضرورته الملحة مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق، وبقوة تأثير هؤلاء الرموز نشأت أجيال من المتنوّرين المؤمنين بحاجتنا إلى الخروج من عصور عزلنا فيها العثمانيون عما يحدث في العالم من تطورات، وتأسست لاحقاً الجامعات ومراكز البحوث، وآمن القائمون عليها بفكرة إيفاد خريجي الجامعات لدراسة أحدث مناهج البحث. ولا يمكننا أن ننكر أن هناك موجات من السفر الكثيف، كانت تشبه الهجرة، خرجت من بلادنا سعياً وراء فرصة حياة أفضل، ولكن يلاحظ الطابع الإيجابي في الحالتين، في حالة الدراسة استفاد الواقع العربي بمئات من الأسماء التي دفعت الحراك المعرفي قدماً إلى الأمام ، بل لقد قدم بعض هؤلاء الذين فضلوا البقاء هناك إضافة معرفية لافتة للغرب، ووصلنا في بعض المراحل إلى الحديث عن هجرة العقول العربية، أما في حالة البحث عن حياة أفضل فقد استطاع بعض العرب تكوين تجمعات مرموقة في الأمريكتين، حيث اندمجوا في المجتمع ووصلوا أحياناً إلى مراكز سياسية واقتصادية مرموقة.
الآن اختلف الوضع تماماً، لم يعد هناك من يود السفر من أجل تحصيل المعارف، ونقل التجارب، فبؤس الحالة العلمية في العالم العربي، تدفع جميع العقول، إلى الاستقرار في الخارج، ولا يوجد من يرغب في الحصول على فرصة «أفضل» في الحياة، فالجميع تداعبه أحلام الرحيل لمجرد «العيش»، وحتى من يؤسسون تجمعات في الخارج يفشلون في التواصل مع المجتمعات الغربية، لتنشأ في النهاية علاقة تربص وريبة بين المهاجرين ومجتمعاتهم الجديدة.
وبعد أن كنا نصدر المهارات والكفاءات العلمية والاقتصادية، أصبحنا نصدر الهاربين بعقولهم وابتكاراتهم وأحلامهم، وتطور الوضع أخيراً إلى تصدير البائسين والمحبطين والباحثين عن حد أدنى من مقومات الحياة الإنسانية الكريمة.
هنا قد يحلو للمفكر الإشارة إلى خواء الواقع العربي من فكرة كبرى تغري بالبقاء بعد نهاية المشروعين النهضوي والقومي، أما السياسي والاقتصادي فربما يتحدث كل منهما حول فشل مشاريع التنمية، ولكن كل هذه الإجابات والتحليلات أصبحت مملة ومعروفة إزاء كابوس/ حقيقة أن معظم أوطاننا العربية أصبحت بيئة طاردة لأهلها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"