«أنسنة» العنف

00:52 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

نجحت وسائل الإعلام المرئية والسينما في «أنسنة» العنف، أو جعله نشاطاً إنساناً، يحيط بالبشر في كل مكان على مدار الساعة، حتى أصبح أكثر الأنشطة مرئية في التاريخ، كما يذهب الكثير من الذين باتوا يتخصصون في دراسة ظاهرة العنف. ليس هذا وحسب، فالعنف لم يعد يقتصر على الصورة المنقولة فضائياً؛ بل تسلل إلى المواد المقدمة للأطفال بمختلف أشكالها، سواء كانت مجلات مصورة للتسلية أو رسوماً كرتونية أو ألعاباً إلكترونية.

هجم العنف أيضاً على اللغة التي صارت في كثير من الحوارات متشنجة تحمل بداخلها دلالات تختزن رفض الآخر، وربما رغبة دفينة في إقصائه. وأصبح يميز الكثير من السلوكيات التي تصادفنا في الشارع، في النظرات والإشارات، فالتنمر والتحرش يعبران عن درجة ما من العنف. 

تكمن خطورة العنف المرئي في السينما في تفاعلنا معه؛ بل وارتباطنا العاطفي به، فأشهر نجوم السينما الآن هم أولئك الأبطال الذين يمارسون العنف دفاعاً عن الحق أو أخذاً بالثأر، وهو ما منح فكرة العنف جاذبية شديدة هيمنت على لا وعي الكثير من جمهور السينما، حتى تم إنتاج عشرات الأفلام التي لا تحتوي إلا على مشاهد عنف متصل. 

أما الصورة الخبرية العنيفة فكُرست لولع مفهوم الفرجة في الشارع، فعندما نصادف مثلاً حادثة لسيارة هنا أو هناك، سنلاحظ طوابير السيارات التي توقف أصحابها يتفرجون على ما يحدث أمامهم، لا يهمهم تعطيل المرور أو إهدار الوقت.

هذا السياق الواضح للعنف في الحياة اليومية أفرز عدة إشكاليات تتعلق بتفسير علاقة الإنسان بالعنف، البعض ذهب في تحليله لولع معظم البشر بمشاهدة العنف إلى القول إن ذلك يؤدي إلى تفريغ الشحنة العنيفة والدفينة الموجودة داخلنا، وهناك من تطرف أكثر ورأى أن العنف سمة بشرية، فالإنسان عنيف بطبعه. 

إن الوصول إلى النتيجة السابقة مسألة فيها نظر، فمقولة أن الإنسان عنيف بطبعه، تحتاج إلى مراجعة. صحيح أن التاريخ شهد الكثير من العنف، ولكن تحويله إلى ممارسة يومية وإكسابه الشرعية والقبول بل والإعجاب، صناعة الصورة المرئية بامتياز. لم يكن البطل الشعبي أو السينمائي أو حتى الحكائي في قصص الأطفال هو البطل العنيف إلا مع صعود الثقافة الأمريكية، بداية من تقديم البطل الخارق في مسلسلات «سوبرمان» و«بات مان».. وليس نهاية بالبطل المفتول العضلات أو الذي يستخدم أسلحة إلكترونية غريبة الشكل، قبل ذلك كان هناك البطل الرومانسي (الجان) الذي يداعب أحلام الفتيات، والبطل المحتال الذي عبر عن رد فعل على أوضاع اجتماعية مختلة في بعض البلدان، والبطل الذي يوظف السحر للأطفال، هيمنت هذه الأنواع من البطولة على معظم ثقافات العالم حتى غيرت هوليوود تلك المعادلة. 

لقد كان العنف مداناً ومكروهاً على مدار التاريخ، وارتبطت البطولة في جوهرها لدى معظم الشعوب، بالحق والعدل وليس بالقوة، وكلنا نشأنا وشاهدنا آباءنا وأمهاتنا يغمضون أعينهم أمام المشاهد العنيفة. أما أن يتحول إلى مادة مفضلة للأطفال، فذلك موضوع يحتاج إلى مراجعة ونقاش مستفيضين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"