مسخ الفردية

00:19 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يتناول الكثير من المحللين دائماً تأثيرات العولمة وتوابعها في بنية المجتمع واقتصاده وثقافته، ولكن ما يمكن ملاحظته وخاصة مع صعود عصر وسائل التواصل الاجتماعي أن التأثير السلبي وصل إلى الفرد أيضاً.

 تتميز الفردية بتاريخ طويل في الفكر الغربي، بداية من فلاسفة اليونان وحتى الوقت الراهن، ويعتبر البعض أن إعلاء قيم الفردية أهم ما ميز هذا الفكر. وإذا عدنا إلى مفاصل مختلفة في التاريخ الغربي خاصة بعد مرحلتي النهضة والتنوير، سنجد الفردية تؤشر إلى حزمة من القيم، منها الحريات بمفهومها الواسع، والابتكار والإبداع والنزعة الرومنطيقية..الخ. وإذا انتقلنا إلى القرن العشرين سنجد لها تمثلات عديدة، لقد ناقشت الفلسفة الوجودية تلك الأزمة التي يعانيها الفرد تجاه الأسئلة الشائكة والحساسة التي تتعلق بالوجود والمصير، وتناول الأدب مأزق الفرد الذي يمتلك رؤى أو أحاسيس مختلفة عن محيطه. وحتى في الفنون التشكيلية سنعثر على فردية منفلتة من عقالها في السريالية على سبيل المثال، ولكن في كل هذه النماذج كانت الفردية مبدعة ومسؤولة ويناقش من خلالها هذا الأديب أو ذلك الفيلسوف أطروحات تتعلق بحرية الإرادة وعلاقة الفرد بالمجتمع..أي أنها كانت في كل تمثلاتها فردية خلّاقة، لم تتوجه بخطابها أو نقاشاتها إلى فرد بعينه، بل كانت تستهدف الإنسان بصفة عامة.

 إذا انتقلنا إلى محاولة التعرف إلى ملامح الفردية الآن، سنجد أنفسنا أمام صورة مختلفة تماماً، حيث تتشكل «نخبة جديدة» من مؤثري مواقع التواصل، هؤلاء يتحدثون إلى متابعيهم بصيغة المخاطب، يهدفون بذلك إلى إقامة علاقة حميمية، ولكننا عندما نتأمل قليلاً في مضامين ما يقولونه سنكتشف أنهم ينشرون الفردية بمعناها الأناني والسطحي، ليس هم وحسب، ولكن عشرات الكتب التي صدرت خلال العقدين الماضيين، وتترجم بغزارة إلى العربية، تؤدي الرسالة نفسها، فعندما نقرأ عناوين من قبيل «كيف تنجح» أو «كيف تصبح ثرياً»..الخ، سنلاحظ مثلاً أنه للمرة الأولى في التاريخ أصبح الثراء متعلقاً بقدرات الفرد وحده، هذه الكتب ونخبة مواقع التواصل يطرحان مقولات من قبيل: افعل كذا وكذا..اتبع هذه الخطوات..حاول أن تتمتع بهذه السمات، وإذا نفذت هذه النصائح ستصبح ثرياً.

 إن الفرد المعني بالرسائل أو النصائح في عالم مواقع التواصل لا علاقة له بمجتمعه وشروطه وتاريخه وأطره وحراكه وطبقاته، هو لا يهتم إلا بذاته التي تغرق رويداً رويداً في السذاجة والسطحية، أو تعيش مغتربة مرتين، مرة بفعل ضغط الواقع الحقيقي، ومرة ثانية نتيجة لأوهام الواقع الافتراضي، وإن كان هذا الفرد يتميز بذكاء ما فسيمارس الفردية في أسوأ صورها، سيسلك قوانين «الشطارة» و«الفهلوة» حتى يحقق حلمه بالثراء، ولن يلتفت إلى الآخرين.

 لا يتوقف الطرح السابق عند الثراء وحسب، ولكنه يمتد إلى كافة مفردات الحياة: العمل، الحب، والمشكلات النفسية...الخ. إن العولمة بصورها المختلفة ونتيجة لطبيعتها ومسارها التاريخي لم تروج للفردية الغربية التقليدية، التي وإن كان البعض ينتقد بعض جوانبها، إلا أن معظمنا يحترمها، ولكنها تنشر الآن فردية أشبه بالمسخ الذي يحاول تشويه إنسانيتنا نفسها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"