عادي
زاد القلوب

التوبة الصادقة... درب المؤمن إلى السعادة

14:57 مساء
قراءة 5 دقائق
«واعلموا أن الله بكل شيء عليم»
الخطاط د. عامر الجميلي
الشارقة: علاء الدين محمود
«إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب».
هكذا تحدّث العابد الزاهد أبو يحيي مالك بن دينار البصري (ت.748م) من أعلام التابعين، وصاحب مكانة كبيرة بين الفقهاء والعلماء، وقال الذهبي: «عَلم العلماء الأبرار، معدود في ثقات التابعين. ومن أعيان كتبة المصاحف»، وعرف أنه قد سمع من أنس بن مالك، وحدّث عن سعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين، وحدث عنه سعيد بن أبي عروبة وطائفة سواه، وثّقه النسائي وغيره، واستشهد به البخاري.
وتلك المقولة كأنها تحكي عن حياة ابن دينار وما خاض من تجارب ومنعطفات كان لها أثر كبير في تكوين شخصيته وتجربته الروحية؛ فقد اشتهر في حياته الأولى قبيل أن يسلك طريق الهداية بأنه كان رجلاً محباً للمال، ومسرفاً في طلبه، وقد سمع عن الأوقاف الكثيرة التي تتبع مسجد معاوية بن أبي سفيان في دمشق، فرغبت نفسه في أن يتولى تسيير المسجد والإشراف عليه بغية الاستفادة من ذلك المال الكثير الذي يتبعه، فقرر أن يسكن متهجداً في المسجد، لا يبارحه إلا لماماً، علّه يلفت الانتباه إليه، فيقرر من يتولون الإشراف على المسجد توليته.
وبالفعل لازم المسجد، واعتكف للعبادة عاماً كاملاً؛ يقوم أطرافاً من الليل وآناء من النهار، وكل مظاهر التدين، وكل ذلك في سبيل أن يصبح جديراً بالثقة، فلم يكن حينها صادقاً في عبادته، فعند المساء كان ابن دينار يتوجه نحو أماكن اللهو حيث الحياة الماجنة، حتى إذا انتصف الليل عاد إلى المسجد ليتظاهر بالانهماك في الطاعات والعبادة، وذات ليلة كان في شُغل مع أصحابه في لهوهم، فقام أحدهم إلى العود وعزف عليه لحناً، فسمعه مالك يقول: يا مالكُ، مالكَ ألا تتوب؟ وكان لذلك القول العفوي ما بعده؛ إذ استبدت الحيرة بمالك، وأمعن في التفكير في حاله ووضعه، وتظاهره بالعبادة في حين أن قلبه غير عامر بالإيمان، وفكر جاداً في أن يغير من طريقة حياته تلك، وبدأ في مناجاة نفسه، وكان يقول: «لِمَ لا أعبد الله بإخلاص، وأبذل كل ما بذلته وأكثر ابتغاء وجه الله؟» وكان لتلك المواجهة مع الذات تأثير كبير في مجمل حياته فيما بعد؛ إذ بدأ ابن دينار في التفكير الجدي في التوبة والإقبال على طريق الحق والإيمان، فحسنت أعماله بعد أن تهيأ قلبه للمدد والأنوار، فطابق مظهره جوهره، وصار من عباد الله الصالحين وأحد أبرز أعلام التصوف دون شطط، وصار صديقاً مقرباً للحسن البصري، جمعهما وبعض العلماء الآخرين طريق الزهد والتجربة الروحية؛ إذ صفت أرواحهم وصحّت قلوبهم، فكان لهم ما أرادوا من حياة عمروها بالعبادة والطاعة.
**خشوع
وبعد توبته وإقباله على الله تعالى زهد ابن دينار في الدنيا، وما فيها، وقضى ليلته في المسجد يتعبد لربه بإخلاص في تلك الليلة، وما أن أصبح الصباح حتى جاء بعض المسؤولين عن الجامع فقالوا: لقد ظهر في المسجد بعض الخلل، ولا بد من مُتولٍّ يتعهد شؤونه، ويشرف عليه، ثم اتفقوا على أنه لا شخص أصلح من مالك لأجل تلك الوظيفة، فذهبوا إليه فوجدوه يصلي خاشعاً لله، فانتظروه حتى انتهى من صلاته، فقالوا له: جئنا إليك لتقبل منا أن تتولى شؤون هذا المسجد وتسيّره. فاندهش مالك، وقال في مناجاة مع ربه: «إلهي، عبدتك سنة دون إخلاص لأجل هذه التولية فما حصلت، وعبدتك بعض ليلة بإخلاص فبعثت لي عشرين رجلاً يسألونني قبولها». فكان أن قرر ابن دينار ألا يقبل تلك الوظيفة وتمسك بالزهد في الدنيا، واشتغل بمجاهدة النفس، وبالطاعات والعمل الصالح.
المقولة تتحدث عن الحزن الذي يسكن القلب جراء الذنوب؛ إذ تخلق في النفس وحشة، وتلك المشاعر عاشها ابن دينار بعد توبته؛ فقد أصابه الحزن على ما أسرف في الأيام الخالية، ولعل هذا الحزن دليل خير في النفس؛ فهو يشير إلى قلب سليم عرف الندامة، ونفس تحاسب صاحبها على الدوام؛ فالعابد الذي يحزن على ذنوبه هو في الحقيقة قد امتلأ قلبه بالإيمان، وربما ذلك ما جعل الحسن البصري يقول: «إن المؤمن ليذنب الذنب فما يزال به كئيباً حتى يدخل الجنة». إذ إن ذلك الندم وهذا الحزن اللذين يصيبان روح العابد يصبحان سبباً في أن يسلك طريق الخير الذي يكون جزاؤه كبيراً عند رب العالمين، يقول النفري: «القلب يتغير، وقلب القلب لا يتغير، والحزن قلب القلب». وللمتصوفة أدب كثير في الحزن وأحوال القلب؛ إذ يظل السالك في حالة من محاسبة النفس والشوق المستمر للتقرّب من ربه، ولا يكون الحزن عندهم بالادعاء في حين أن القلب خالٍ من معانيه، بل هو ذلك الحزن الذي يظهر في البكاء من خشية الله تعالى، وسهر الليالي استغفاراً وتوبة، وإتباع السيئات بالحسنات، وهجر المعاصي، والإقبال الصادق على طريق الهداية بعد التوبة الصادقة، وهي طريق المؤمن إلى السعادة الحقيقية، وتلك قصة فيها الكثير من العظات والعبر التي تفيد المرء في حياته اليومية؛ فبينما هو يقبل على الحياة بكل ما أوتي من عزم لا يجد الكثير مما ينشده في هذا السعي؛ لأن الله تعالى هو الذي يدبر أمور الحياة.
*حكايات
ولعل تلك الكلمات العظيمة هي خلاصة تجربة روحية وإيمانية عاشها ابن دينار، ووجد فيها اختلافاً كبيراً عن تلك الحياة التي كانت في سابق أيامه قبل توبته، ولعل ذلك الخير الكثير الذي وجده بقرب الله تعالى هو الذي جعله لا يرغب إلا في ما عند ربه، وله في الزهد حكايات كثيرة، منها أنه كان في البصرة رجل ذو مال، وكانت له ابنة ذات جمال، فتوفي عنها، فأتت إلى ثابت البناني رحمه الله وطلبت منه أن يزوجها مالك بن دينار؛ كي يكون عوناً لها على طاعة الله، فعرض ثابتٌ ذلك على مالك، فأبى، وقال له: إني طلقت الدنيا ثلاثاً، والمطلقة ثلاثاً لا تعود، وهي الدنيا.
وظل الحزن ملازماً قلب ابن دينار، وكلما تذكر ما سبق من حياة المعاصي تشكّل لديه عزم جديد وأكيد بأن يظل باقياً في طريق الطاعات؛ فهو الذي يجد فيه الأمان وتتنزل عليه فيه السكينة والطمأنينة وتغمره الإشراقات والمدد وفيوضات الأنوار، لتنصلح أحواله وتخرج منه مثل هذه الدرر من الأقوال، والمواعظ، والعبارات التي كانت سبباً في هداية الكثيرين إلى طريق المحبة، والرشاد، والصلاح... فأقبلوا على الله تعالى بقلب سليم.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4rxx7ujm

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"