عادي

الخط التقليدي.. الحروف تغازل روح العصر

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
عمر الجمني

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يعتبر الخطاط التونسي عمر الجمني واحداً من الخطاطين المعاصرين المؤمنين بضرورة الحفاظ على الطابع التقليدي للخط العربي، فرغم ميله إلى التجديد في هذا الفن، إلا أنه ظل متمسّكاً بالبصمة الأصيلة التي تميّزه عن بقية الفنون المستحدثة، بوصفه مادّة تراثية يمكن تطويرها والاستلهام منها، من دون إحداث تغييرات جذرية في أساسياتها، وهو ما تعكسه أعماله الفنية المتميزة.
يحرص الجمني على المزج بين الخط العربي التقليدي والأساليب الفنية التي تعكس روح العصر، فهو متخصص في خطوط عدة بينها النسخ والثلث، لكنه يفضّل الكتابة بالخط المغربي، لإبقائه قيد التداول من جهة، ومن جهة أخرى، لتأكيد قدرة جميع أنواع الخطوط العربية على التعبير عن كل المضامين والمشاعر الإنسانية مهما كان مصدرها.
تكيُّف
كتب الجمني في هذه اللوحة بداية سورة الطلاق، مركزا على توضيح كتابة البسملة وآية «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»، وكتب بقية النص بشكل حروفي، وخطها بالخط المغربي التقليدي المعروف بالمبسوط، والذي انتشر في منطقة الأندلس، والمغرب العربي، مُطوّعاً إيّاه بأسلوب تشكيلي معاصر، من دون أن يغيّر في أسسه وقواعده الأصيلة، مُبرزاً ما يتمتّع به هذا الخط من خصائص تميّزه عن بقية الخطوط المشرقية، وتجعله مكمّلاً لها في سلسلة فن التراث الخطي العربي، فهو خط بسيط وسلس، قابل للتكيف مع جميع الأشكال الفنية، ويتميز بوضوح حروفه وامتدادها، وشدة تقويس بعضها. ويشير النص القرآني المكتوب في اللوحة إلى وعد الله للمتقين بتيسير أمورهم، وتفريج كروبهم، ورزقهم من حيث لا يتوقعون، فإذا كان النص قد نزل في شأن صبر المتزوجين على أزواجهم، فإنه موجّه أيضاً إلى كل الناس، فمن يخاف الله في سرّه وعلنه، ويتوكل عليه، ولا يسعى إلى الإضرار بالآخرين، يكون الله له عوناً في شؤونه، مُيسّراً لها، وفاتحاً عليه أبواب الخير جزاء له على تقواه، من أجل الاستمرار فيها، ولا يقتصر ذلك الجزاء على الدنيا، بل سيجد أمامه في جنات الخلد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهي الدلالات التي أراد الجمني عكسها في هذه اللوحة.
مشهد بصري
اشتغل الجمني في هذه اللوحة على تحويل المضمون من مجرد حروف وكلمات مكتوبة، إلى مشهد بصري تشكيلي، مع المحافظة على الطابع التقليدي للنص، فصمّم العمل بشكل دائري يقطع اتصالَه مخرَج مفتوح، ورسم حلَقَة الدائرة بمجموعة من الحروف العاكسة لبداية السورة، وكتب البسملة داخل الدائرة، حيث كتب «بسم» بشكل أفقي مُمتد، وكتب أعلاها لفظ الجلالة «الله»، وكتب تحتها «الرحمن»، و«الرحيم»، جاعلاً مقطعيهما الأولين في مكان واحد، ومقطعيهما الأخيرين في مكان واحد أيضاً، وحافّاً إياها بالنقاط، حرصاً منه على إضفاء لمسات جمالية خاصة على التصميم، كأنه – بكتابة البسملة داخل الدائرة- يوحي بأن الفلاح في التقوى يتطلب الاتكال على الله، بالبدء باسمه «بسم الله الرحمن الرحيم»، ثم كتب في المخرَج المفتوح بقية النص «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»، وأتبعه بـ«صدق الله العظيم»، وقد خطه بشكل أفقي مسترسل، حيث بدأه من داخل الدائرة، بمقربة من البسملة، واستمر في كتابته حتى انتهى منه خارج الدائرة، مجسداً دلالة المضمون، فمن يتوكل على الله بتسميته في بداية أعماله، ويتّقه كما أمره، يجعل له مخرَجاً من همومه، ويُيَسر له أموره، ويرزقه من حيث لا يتوقّع، وقد أشار لرزق الله بتلك الحروف الكثيرة المبثوثة في حلقة الدائرة، بألوانها المختلفة، فهي رزق الدنيا الذي يمنح السعادة للمتقين الذين ينالونه، ورزق الآخرة الذي ينتظرهم في جنات الخلد. وتُشكّل الألوان المتنوعة المنتشرة في اللوحة تعبيراً عن البهجة التي يشعر بها الفنان، وهو يستحضر مضمون نص لوحته، محاولاً نقل تلك السعادة إلى المشاهد في قالب جمالي مُحكم الإتقان، حيث كتب النص الرئيسي باللون البني، لون الارتباط والقرب، فيما نوّع ألوان الأحرف المبعثرة، كأنه يريد أن يعكس ارتباط النفوس البشرية بالجمال.
إضاءة
ولد عمر الجمني سنة 1957م، وهو حاصل على شهادة الكفاءة المهنية في التصميم والإشهار، وعلى شهادة دكتوراه شرفية من المركز الثقافي الألماني ببيروت ـ لبنان، وهو ممارس لفن الخط العربي التقليدي والمعاصر، يعمل كخطاط ومصمم، وباحث في شؤون الخط التقليدية والمعاصرة، وعضو في اتحاد الفنانين التشكيليين بتونس، وعضو عدة لجان تحكيم لمهرجانات جزائرية في الخط العربي، وعضو شرفي لدى جمعيات الخط العربي في العديد من الدول، وشارك في العديد من المهرجانات والملتقيات المحلية والعربية والعالمية، وحصل من خلالها على العديد من الجوائز، الرئيسية والتقديرية، والدروع، والميداليات، والتكريمات، وقد أصدر كتاباً فنياً يحمل اسم «لحن الكائنات»، للشاعر أبو القاسم الشابي، ونال من خلاله وسام الاستحقاق الثقافي الرابع، وكتب خطوط العملة الورقية التونسية، وبعض العملات المعدنية، وكتب الخطوط الخاصة بـ 6 مساجد في تونس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4skxpfw5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"