تقدم العلم وتراجع الثقافة

00:43 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يبدو لمتابع تحولات عصرنا أننا نعيش ازدهاراً لافتاً في العلوم، ولكن المفارقة هنا كما لاحظ المفكر الفرنسي ميشيل هنري في كتابه «الهمجية»، أنه زمن يتميز أيضاً بتراجع الثقافة. 

في الكتاب الصادر عام 1987، ذهب هنري إلى أن المعرفة بمعناها الواسع تعيش أزمة ولا توجد حرية اختيار بين مكوناتها المختلفة، وأن العلوم باتت خياراً وحيداً أمام الإنسان. أما بقية الخيارات المتاحة أمامنا داخل منظومة المعرفة مثل الأفكار الكبرى والآداب والفنون فلا مكان لها أو تأثير.

ويبدو أن أطروحة هنري بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على صدور الكتاب، مناسبة لواقعنا أكثر وكأنها تتنبأ بما نعيشه الآن، فكلما تقدم العلم تتراجع الثقافة، وهي مفارقة لا يمكن فهمها إلا برصد مسار العولمة في العقدين الأخيرين.

عندما بدأت رياح العولمة تهب على مختلف أرجاء العالم منذ عقود قليلة، تحدث الكثيرون عن تأثيرات تشمل العديد من المفردات مثل نوعية الطعام والموسيقى.. وبدأ البعض يلخص العولمة في «ثقافة الهمبرجر والكوكاكولا»، ولكن لم تمر فترة وطاولت العولمة كل شيء، حتى الأسواق والمقاهي الشعبية.. كل ذلك تغير ودخل ما ينتمي إلى الثقافة المادية المحلية أو الوطنية في الكثير من البلدان إلى دائرة الفولكلور، وبدأت سلاسل محال الطعام العالمية تُدخل بعض المأكولات الشعبية ضمن قوائمها، مع إجراء تعديلات عليها، حتى ما يتعلق باختلاف البيئة ويعود إلى خصوصية ثقافية مميزة، اقتحمته الشركات الكبرى وحوّلته إلى «ماركات عالمية». 

العطور على سبيل المثال. لقد نجحت العولمة تماماً في غزو ثقافة الحياة أو المنتج المادي للبشر، وما وقف في طريقها عملت بذكاء على استيعابه.

أما الثقافة بمعناها النخبوي فعملت العولمة، ببطء، على تقليصها أو تسطيحها أو تراجعها، بدأ ذلك بإعلان موت الأفكار الكبرى، ونهاية الناقد، وزمن القارئ، ولم تعد الأولوية لمنتج النص أو ناقده، ولكن للمتلقي، وصاحب ذلك توفير منابر تسمح بصعود جماهير لا يمتلكون الأدوات التي تؤهلهم لمناقشة النصوص الكبرى، أو حتى فهمهما، والترويج لفكرة أن الثقافة الراقية ليست مفيدة في الواقع العملي، وأفرز هذا الوضع النتيجة المطلوبة منه، فالمنتج الفكري أو الأدبي الثقيل لا يناسب الأذواق الجديدة، وببطء وعلى مهل صمتت النخب. 

الخطوة الثالثة للعولمة في غزو الثقافة التقليدية، تمثلت في منتج ضخم يضم عشرات الكتب والبرامج والمؤثرين يمكن عنونته بثقافة «تطوير الذات» التي تتميز بسمتين: الأولى أنها تتوجه إلى جمهورها بنداء المخاطب، والثانية أنها تتضمن نصائح وإرشادات تتعلق بأبجديات الحياة التي من المفترض أننا نتعلمها في الأسرة والمدرسة والمجتمع المحيط؛ أي أنها تحاول زرع الفردية بمعناها السلبي وتجاوز المؤسسات المنوط بها بناء الروابط المجتمعية الصحية. 

الآن نحن في مرحلة تراجع واضح للثقافة بكل أبعادها التي عرفناها لقرون طويلة، وساعدت في ذلك تطبيقات تكنولوجية نتجت عن تقدم العلم، دعمت العولمة في هدفها النهائي المتمثل في العمل الممنهج على منع تشكل أي فكرة كبرى بإمكانها تقديم تصورات بديلة للعولمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"