عادي

تأملات في فن الخط

00:54 صباحا
قراءة 6 دقائق
9

يوسف أبو لوز

أساس فن الخط هو الحرف، وإذا كانت مادة الروائي أو الشاعر هي اللغة والصورة والسرد أو الحكي، فإن مادة الخطَّاط هي الحرف، الخطّاط يرسم الحرف ولا يكتبه، وتبدو الكتابة فعلاً أدبياً إبداعياً يتصل بالشاعر أو بالروائي، والكتابة ليست مهمة أو وظيفة الخطّاط. إنه لا يكتب إلاّ في حالة التنظير أو التقعيد أو التعريف بعمله الفني الذي هو اللوحة الخطية، وقد يكتب الخطّاط الشعر أو النثر أو أي جنس أدبي آخر، لكنه في هذه الحالة، أي حالة الكتابة ليس خطّاطاً بل هو أديب أو شاعر أو ناثر.

مادة الخطّاط هي الحرف، إن خطّه الإبداعي هو خط اللغة، خط الأبجدية، وليس الخط الهندسي الذي له طول وليس له عرض، فيما خط الخطّاط له طول وله عرض وله زوايا، وله تدوير وله انحناءات.

الخط الهندسي أو خطّ المهندس المعماري هو الخط العلمي الذي يتكون ممّا لا نهاية له من النقاط كما يأتي التعريف العلمي به، أما خطّ الفنان أو خط الخطّاط فرسم وتشكيل وصورة، وإذا لجأ الخطّاط للهندسة ففي حدود ضيقة تماماً لكي يضبط نسبة معينة مثلاً من حركة خطّه، وهي حركة خارجة تماماً على رياضيات المسطرة والفرجار، أي الحركة الهندسية العلمية.

رسم الحرف

هكذا يمكن القول ربما اجتهاداً وربما واقعياً إن رسم الحرف، والتفنّن في تشكيله، وتدويره، ومرونته هو الخط أو فن الخط، ولكن هذا الحرف هل هو فقط الحرف العربي أم أن حروف اللغات الأخرى يمكن أن تتحوّل إلى مادة خطّية أو إلى فن خَطّي؟.. الجواب نعم، حروف اللغة الصينية مثلاً تحمل طاقة تشكيلية وجمالية، وإذا عدت إلى الأشكال الكتابية التوضيحية في كتاب «تاريخ الكتابة» ليوهانس فريدريش، ترجمة: د. سليمان الضاهر، تعجب من قابلية حروف عشرات بل مئات لغات العالم القديمة إلى فن خطي تشكيلي، لا بل إن الحرف الواحد هو في حدّ ذاته صورة خطّية، أو صورة تشكيلية سواءً أكان حرفاً مطلقاً وحده، أو كان في سطر أو في جملة.. على ذلك ففي اللغة الهيروغليفية ثمة حروفية أو خطوطية. النقوش الأكادية القديمة للملك شاركاليشاري، ورموز كتابة وادي نهر الهند، ورموز الكتابة الصورية، الكريتية، والحروف السومرية، والنقوش الآرامية، والنبطية وكتابة هيراغانا المقطعية اليابانية، وكتابة لاووس، وغيرها، هذه الكتابات والنقوش والحروف، وغيرها المئات في تراث الأرض اللغوي والأبجدي يمكن أن تتحوّل إلى فن خطّي إنساني أو كوني، لكن بقيت هذه الأبجديات في إطارها اللغوي، وحتى الديني والمعتقدي ولم تتحوّل إلى فن قائم بذاته كما هو حال الخط العربي، الذي هو عمود فقري في الفنون الإسلامية.

طاقة جمالية

الخط العربي، إذاً، اكتسب ميزته التشكيلية من الفنانين العرب المسلمين الذين اكتشفوا طاقته الجمالية، وحوّلوه من مجرد حروف إلى منظومة كبيرة من الفنون، وهنا علينا أن نلاحظ أن الخطوط العربية هي صور وتشكيلات ورسوم اجتهد الخطّاطون حتى الخلفاء والسلاطين في إنجازها..

خط الرقعة مثلاً يكاد يكون الخط الشعبي المتداول عند كل من يقرأ ويكتب بالعربية، إن خط الإنسان العادي هو أقرب إلى الرقعة. فهو خط عملي يومي، وأشير هنا إلى أن خط الإنسان يكبر معه، ويهرم معه أيضاً، وإذا قارنت خط يدك وأنت في ال 15 مثلاً من عمرك، ثم وأنت في ال 30، وفي ال 60 لوجدت اختلافات وتحوّلات طرأت على خط يدك من حيث التشكيل والصورة، والمرونة.

نشير هنا أن لكل خط شخصية وهوية إبداعية إن جاز القول، ولكل خط وظيفة أيضاً، لا بل كانت مراسلات السلاطين تسُمّى «الخطوط»، وفي كتاب «سجل مكاتبات السلطان برغش سلطان زنجبار»، وقد حققه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة نطالع رسائل بين السلطان برغش ومسؤولين بريطانيين وغيرهم من رجال الدولة، وكانت الرسالة تسُمى «خط»، فقد كان السلطان يكتب في بداية كل رسالة، مثلاً، خط إلى سليمان بن حمد، خط إلى عمر بن سالم، خط إلى السلطان عمر بن يوسف،.. وهكذا، كل نصّ رسالة هو: خَطّ.

يشار هنا أيضاً إلى أن خط الإجازة مثلاً جاء من الخط الذي تكتب به الإجازة المدرسية أو الجامعية (شهادة الثانوية مثلاً، أو الشهادة الجامعية).. كان يجري كتابتها بخط معين، أطلق عليه في ما بعد خط الإجازة.. أما خط «الطغراء» فهو في حد ذاته رسمة فنية تشكيلية، وهو إذا أردت القول خط أرستقراطي، ترشح منه قوّة السلطة، فهو خط سلاطين وموظفي دواوين الدولة.

ولكن ماذا عن خَطّ ذي الرُّمة (بضم الراء)، الشاعر الذي طلب ماء من امرأة تدعى «ميّة» وقد ضربه العطش في صحراء بدا له فيها أن السراب ماء، وكان يشدّ، كما تقول روايته، عضده بقطعة من حبل «رُمّة»، ومع شربة الماء.. شرب الحب.

لم ينل ذو الرّمة حبّه الذي يبدو أنه هو الذي قتله، ومات في الأربعين، لكن قبل ذلك لم تكن له حيلة سوى أن يلعب بالخط. كان يخط بعصا أو بعود على وجه الرمل، ثم يمحو ما يخط، وكان يلقط الحصى من الرمل، وكانت الغربان تطير وتحط أمامه، وتقع بين يديه.. والخط بين «الكتابة» والمحو:

وما يَرْجِعُ الوجد الزمان الذي َمضي

ولا للفتى من دِمْنَةِ مَجْزَعُ

عَشّيةَ ما لي حيلةٌ غير أنني

بلَقْطِ الحصى والخَطِّ في التُربُ مولَع

أخطُّ وأمحو الخَطَّ ثم أعيده

بِكَفّيّ والغِرْبانُ في الدّار وُقَّعُ

كأنَّ سِناناً فارسياً أصابني

على كبدي بل لوعةُ البين أوْجَعُ

ماء الذهب

لم يكن الشاعر العربي خطاطاً، ولكن تكريماً له كتب الخطاطون أو النسّاخون قصائد الشعراء أو حولياتهم بماء الذهب، وعلّقوها على أستار الكعبة، فمن قائل إنها 7 معلّقات ومن قائل إنها 10، وأياً كانت وأياً كان عددها فكتابة الشعر مخطوطاً بماء الذهب وتعليقه على أقدس مكان رمزي ديني ومعتقدي هو امتياز لا مثيل له للشعر ولكن مَنْ هؤلاء الخطّاطون الذين حوّلوا رقاع الشعر إلى معلّقات من ذهب؟ لا أحد يعرف الخطّاط، غير أننا نعرف الشاعر الذي كان يقول قصيدته شفوياً. كان يرتجل ولا يكتب أو يَخُط أو أنه كان يكتب ولكن تلك الكتابة كانت في حالات قليلة لم تكن، كما يبدو، على درجة من الأهمية بالنسبة لمن يصغي إلى القصيدة.

كانت القصيدة قصيدة إلقاء في سوق عكاظ ولم تكن قصيدة مُعلّقة أو مخطوطة، إلى أن جاء الخطّاط، فأمعن النظر في الحرف، وَحَوَّله من صوت إلى صورة. من مسموع إلى مرئي، المسموع هو صوت القصيدة في سوق عكاظ والمرئي هو صورة أو شكل القصيدة وهي معلّقة على الكعبة، ومن أوجد «المسموع» هو الشاعر، أما الخطّاط فهو مَنْ أوجد «المرئي».

صورة

حوّل الخطّاط العربي الحرف اللغوي أو الأبجدي إلى صورة. صارت الكلمة صورة، وليست مجرد صوت، وصدى صوت، ولكن قبل الخطّاط كان النسّاخ، وكان الورّاق. أو أنهم معاً أبناء عائلة واحدة، لكن مع الاختلاف بين كل واحد منهم بحسب ما تمليه الحرفة.

بقي النسّاخون في سوق الورق أو سوق الوراقة. وكان النسّاخ حبّاراً يسهر الليل على نقل الكتب من ورق إلى ورق، ومن هؤلاء «المترجمون» الذين ينقلون من لغة إلى لغة، والاثنان، النسّاخ والمترجم هما ابنان لصنعة واحدة: الوراقة.. غير أن الخطّاط بدا كأنه أرفع منزلة. الخطّاط ليس نسّاخاً ولا ورّاقاً ولا بائع كتب ولا هو ترجماني أو نقلاني يشتغل في الأدب، حتى تدركه حرفة الأدب، وعند العرب.. من أدركته حرفة الأدب فهو مُلْقى على قارعة الفقر.

بدا الخطّاط في حجرة أخرى، إنه قريب من السلطان، وقد يكون كاتبه، أو حامل خاتمه، أو أمين ديوانه، وإذْ يطلب من الخطّاط أن يقوم بدور الفنان فإنه أهل لهذا الطلب ولهذه القيمة الإبداعية الرفيعة.

فضاءات

ملأ الخطّاط فضاءات دور العبادة، والمتاحف، وقاعات كبار القوم بحروفه وامتداداته التشكيلية وجيء بالخطّاط إلى القصور والقلاع والضياع، والبيوت الكبيرة العائلية الفائضة بالخفر البشري الجميل ليضع فكره وعبقريته في هذه الجدران ويحوّلها من حجر إلى مذهّبات ومشجّرات ونمنمات ومربعات ومثلثات مشتقة جميعها من الحرف.

قصبة الخطاط

بقيت، أخيراً، وليست آخراً.. قصبة الخطّاط.. ولكل خطّاط سرّ بل وأسرار، فهو مثل أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها، والخطّاط هو الأدرى بأحباره، وأوراقه ورياشه، وقصباته، وهذه الأخيرة لها حكاية عند الخطّاط العربي، فكل خطاط أدرى بقصبته، وكل خطاط أدرى بأوتار هذه القصبة، تماماً مثل الموسيقي الذي يشدّ العود إلى صدره ويدوزن الأوتار ويعرف المسافات والنّقرات، وحده وهو يضم خشب العود إلى قلبه. شيء من العوّاد في الخطّاط، وشيء أيضاً من الخطّاط في العوّاد، بل بينهما الوتر، والقصبة والصوت، أجل الصوت. صوت العود، وصوت الحرف، الموسيقى الأشبه بالصلاة أو الإشراق المكتمل الذي نجده عادة في الإيمان والنبل والحكمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/29ez6spu

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"