معارك التاريخ

00:33 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يحتل التاريخ جانباً مهماً في معارك وجدل مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتصارع الكثيرون حول أحداث ووقائع الماضي، وهم في الحقيقة يتصارعون حول أزماتهم الراهنة ومشكلاتهم الواقعية التي لا يملكون الأدوات اللازمة لحلها وربما يفتقرون إلى القدرة على فهمها أصلاً، فيهربون إلى الماضي بحثاً عن جذور تلك المشكلات. في الحالة العربية كثيراً ما يعثر متابع هذه المواقع وخلال الجدل حول التاريخ على رؤية كابوسية للماضي، تعتبره مجموعة من النكسات والهزائم المتوالية، هنا ينشأ السؤال: هل كان الماضي هكذا بالفعل، أم أن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد إسقاط لأزمات الحاضر على التاريخ؟.

الصورة السابقة سمة عربية بامتياز، ومستنسخة من العديد من الأدبيات والأطروحات التي صدرت بعد نكسة 1967، والتي كانت تفتش عن أسباب الهزيمة. لقد توجهت النخبة بأكملها آنذاك إلى التاريخ ولم تكن قراءاتها، ولأسباب فكرية ونفسية يطول شرحها، موضوعية لما حدث في ماضينا، كانت قراءات مؤدلجة وتخوض معارك واقعها على أرضية الماضي، وأصبح تاريخنا كله محنة، وفق البيت الشعري الشهير لنزار قباني.

هذه الرؤية التي كانت في بطون الكتب والمشروعات الفكرية ويتداولها القراء والباحثون، تنتقل الآن إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا الخطورة، لعدة أسباب، هناك الانتشار الكاسح لتلك المواقع، واجتزاء مقولات حساسة من سياقها العام والترويج لها، والتحدث عن وقائع معينة معزولة عن سياقها وظروفها، وتزويد بعض المعلومات بصور ورسوم ما يجعلها أكثر جاذبية، وغير ذلك من أدوات مستخدمة في تلك المواقع.

يمثل التاريخ ركناً أساسياً في تكوين ووعي ووجدان أي إنسان، يؤسس ليس لرؤيته لمجتمعه ووطنه ومحيطه وحسب، ولكن يؤثر حتى في نظرته إلى ذاته. وقراءة التاريخ في الأصل متدرجة، هناك المعلومات الأساسية اللازمة لكل فرد والتي تعزز شعوره الوطني وانتمائه القومي، من هنا نفهم الحس التربوي الذي يهيمن على مناهج التاريخ في مختلف مراحل التعليم. أما كتب التاريخ الكبرى ومدوناته فمتاحة لكل من يهوى القراءة في هذا المجال، ربما يتخبط القارئ الشغوف في البداية ولكن مع الدأب والمواصلة سيصل إلى قدر من الموضوعية في رؤيته التاريخية، أما المؤرخ الذي يمتلك الأدوات والمناهج فالأقدر على قراءة الوقائع وفقاً لزمنها هي لا زمننا نحن، والأقدر على الحديث «العلمي» عن التاريخ، وهي مراحل تحرقها جميعاً مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تخوض «معارك» مع التاريخ من دون رؤية أو براهين أو منطق.

يتبقى أن تاريخنا لم يكن كله محنة، ولا توجد أمة كان تاريخها بأكمله مأساة، وهناك أمم تعرضت لعقبات ونكسات لا نقارن بها، وكل ماضٍ فيه لحظات عصيبة ونقاط مضيئة، وانتصارات وهزائم، والماضي يؤثر في الحاضر ولكنه لا يهيمن عليه أو يحركه، ونحن نتعلم من التاريخ ولكننا لسنا أسرى له، ونحن من نصنع واقعنا، والأهم من ذلك هناك ضرورة لإعادة تقييم أدبيات التاريخ المتشائمة، وقراءة الماضي وفق قوانينه وظروفه وليس نتيجة لتأثرنا بمناخ العصر أو رؤية الآخرين، والذين لا نعرف نواياهم أو أهدافهم تجاهنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/644xh774

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"