الواقفون ليلاً لاستعادة المجال العام!

04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. محمد الصياد

من قلب الحدث الكبير الذي اهتزت له الدولة الفرنسية تحت وطأة الشلل شبه التام الذي أصاب مرافقها، بفعل الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية والإضرابات الواسعة التي شهدتها على مدار الشهور الثلاثة الأخيرة، منذ إبريل/ نيسان الماضي في أعقاب قرار الحزب الاشتراكي الحاكم وزعيمه الرئيس فرانسوا هولاند تجاوز الجمعية الوطنية (البرلمان)، واستخدام سلطاته الرئاسية لإنفاذ قانون العمل الجديد الذي يسمح بالتسريح التعسفي والتسريح لأسباب اقتصادية، والسماح لشركات المقاولات الصغيرة التي لا يتجاوز عدد عمالها الخمسين، بتمديد ساعات العمل مع العاملين على انفراد، وإمكانية تعديل أوقات العمل بزيادتها - من قلب خضم هذا الحدث الكبير، ظهرت إلى السطح حركة «الواقفون ليلاً» متخذة من الاعتصام في ساحة الجمهورية بباريس طوال الليل سبيلاً للتحشيد الشعبي الاحتجاجي ضد قانون العمل الجديد.
هذه الفكرة التي ابتدعها المحتجون لقيت ترحاباً وحماساً كبيرين لدى جموع الساخطين على تدهور أوضاعهم المعيشية، وبدؤوا بالمبيت في ساحة الجمهورية، وسرعان ما أصبحت الحركة تستقطب الآلاف من فئات اجتماعية مختلفة، تجمعها مشاعر السخط تجاه سياسات الحكومة والنظام العالمي. ليتطور الأمر تالياً إلى تحويل ساحة الجمهورية إلى مجال عام لنقاشات ساخنة حول مواضيع اجتماعية وسياسية واقتصادية، تدور طوال الليل، تحت شعار، كما تقول الحركة في موقعها على شبكة الإنترنت «تجمعات سلمية، مفتوحة وشعبية نحو استعادة المجال العام».
وتضم الحركة في صفوفها اتجاهات اجتماعية وسياسية متنوعة، منهم ناشطون يساريون وليبراليون، وحماة بيئة، وعمال ونقابيون، وطلاب وموظفون، وأناس عاديون. كما حظيت بدعم شخصيات مرموقة، مثل المفكر «إدغار موران»، والاقتصادي «فريديريك لوردون». صحيفة «لوموند» الفرنسية تقصت عن المنضمين لتجمعات الحركة الليلية، فخلصت إلى أن معظمهم ينتمون إلى الأحياء الباريسية، و37% منهم قدموا من مدن فرنسية أخرى، ومنهم من جاء من دول أخرى. كما وجدت أن 61% من المشاركين هم من ذوي الشهادات العليا، و20% منهم قيد البطالة، و16% منهم عمال.

وقد استوحى مؤسسو هذه الحركة فكرتهم من رؤية الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر«يورغن هابرماس (18-6-1929) لما يسمى بالفضاء العام، التي كان طورها من مفهوم المنظرة السياسية الفلسفية الأمريكية من أصل ألماني حنا أرندت (1906-1975) لما أسمته «الميدان العام» الذي صاغته أواخر الخمسينات، ومن ثم بناء تصور بديل وفهم مغاير يأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة من أجل التأسيس لفعل سياسي ألماني جديد ينسجم ومرحلة ما بعد النازية. ينطلق هابرماس من واقع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما اقتضته الشروط السياسية من التأسيس لمشروع مجتمعي يتجاوز الكوارث التي تسببت فيها النازية. وفي أطروحة الدكتوراه الثانية التي قدمها سنة 1961 بجامعة ماربورغ ونشرها في كتاب سنة 1962 تحت اسم «الفضاء العمومي: أركيولوجية العمومية كبعد مؤسس للمجتمع البرجوازي»، تتبع هابرماس تاريخياً دور الفضاءات العامة في بلورة الدولة الحديثة في أوروبا، ووجد أن الصالونات والمقاهي كانت مجالاً خصباً لانبثاق فكرة الديمقراطية. وهو لذلك اعتبر أن الفضاء العام وسيلة الشعب لمحاسبة السلطة، عبر الفعل التواصلي المبني على الحوار والتواصل بين الأفراد، ما يعزز مشاركة الفرد في الحياة العامة، ويساهم في بناء الديمقراطية. فقد اعتبر أن «النقاش السياسي، صار مُحتكراً من قبل البرلمان والإعلام، لذلك لم يعد الرأي العام يتكون من خلال النقاش العقلاني، بل أصبح مجالاً للدعاية، من أجل التضليل والسيطرة»، وبالتالي غدا الشأن العام بعيداً عن إرادات الأفراد الحرة واستقلاليتهم. وعزا غياب الفضاء العام، كمجال للتداول السياسي، كما كان الأمر في القرن الثامن عشر بأوروبا إلى طغيان الفردانية، وتزايد الاهتمام بالمؤسسات التنظيمية ومجال الأعمال. في هذا السياق تحاول حركة «الواقفون ليلًا»، تعزيز سلطة الفضاء العام، الذي يعيد للمواطنين جميعاً حق المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية ونقدها.
وارتفع حماس القائمين على الحركة، ومعه ارتفع سقف طموحاتهم، فأطلقوا دعوة لأكثر من 500 مدينة حول العالم للانضمام اليهم يوم الأحد 15 مايو/أيار الماضي في الاحتجاج على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لفقراء العالم.. هذا التردي الذي فاقم من تركيز الثروات في يد الأغنياء وأصحاب الرساميل الكبرى من جهة، وتوسيع رقعة الفقر وتعميق البؤس من جهة أخرى، وهو ما يدل عليه تمركز ثروة تعادل ما يمتلكه العالم كله في يد 67 شخصاً من أغنى أغنياء العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"