الشارقة: علاء الدين محمود
في عام 2018 صدرت النسخة العربية من رواية «بدم بارد»، للكاتب الأمريكي ترومان كابوتي، عن دار «روايات» إحدى شركات مجموعة «كلمات»، ترجمة راتب شعبو، وهي قصة حقيقية تدور حول جريمة قتل عديدة الضحايا والعواقب، وتعد من الأعمال السردية التي وجدت صدى مختلفاً وخاصاً، واعتبرت لحظة صدورها عام 1966إحدى إرهاصات الحركة الصحفية الجديدة في نيويورك من خلال «معالجة حدث حقيقي بتكنيك روائي»، وهي تُعتبر اليوم ثانية أكثر روايات الجريمة مبيعاً في تاريخ نشر الكتب في العالم، ومن شدة الإعجاب بهذه الرواية تم تحويلها إلى فيلم.
جعلت الرواية كاتبها ترومان كابوتي أشهر مؤلف في أمريكا، وعلى الرغم من المقروئية العالية التي حققتها، والشهرة التي وجدتها، فإنها كانت بمثابة الذروة التي عندما يصل إليها أي كاتب يصعب بعدها المسير والصعود، وذلك ما حدث بالضبط لكابوتي الذي فقد الإلهام بعدها، وكان لها تأثيرها السلبي الكبير عليه، إذ دمّرت حياته تماماً، فتوفي عام 1984، نتيجة الإدمان على الكحول، وعلى الرغم من أنه حاول كتابة عمل آخر، فإنه لم يكمله، وحمل عنوان «صلوات مستجابة»، وقد جاء في افتتاحية تلك الرواية، غير المكتملة، اقتباس من أقوال القديسة تيريزا «تُذرف الدموع على الصلوات المستجابة أكثر من تلك التي لا تُستجاب»، ما يشير إلى حضور وهيمنة رواية «بدم بارد» الكبير والطاغي على حياة ذلك المؤلف المولود في عام 1924، باسم ترومان ستريكفوس بيرسونس، وإلى جانب كونه روائياً فهو كاتب قصص قصيرة وله كتابات في مجال السيناريو، والمسرح، كما خاض تجربة التمثيل، وقد نشأ في طفولة مضطربة بسبب الطلاق والغياب الطويل لوالدته، وكان لذلك الأمر تأثيره الواضح في العديد من أعماله الأدبية التي اقتبست في أكثر من 20 فيلماً وعملاً درامياً تلفزيونياً.
- قصة حقيقية
وصف كابوتي منجزه السردي «بدم بارد»، بأنه رواية غير خيالية، لكونها قد تناولت وقائع وأحداثاً حقيقية في قرية صغيرة تُدعى «هولكومب»، خلال الخامس عشر من نوفمبر عام 1959، حيث قُتل أربعة أشخاص من عائلة واحدة بوحشيّة غير مسبوقة، إذ أُطلق عليهم الرصاص على بُعد سنتيمترات، ولم يجد المحققون أيّ دافع واضح للمذبحة، ولا أدلّة، وكان ذلك أمراً محيراً، لكن كابوتي استلهم تلك الجريمة بحيرتها وغموضها، عبر استدعاء الواقعة ومحاولته إعادة بناء أحداث الجريمة والتحقيقات التي قادت إلى القبض على المتّهمين، وجلسات محاكمتهم، وإنزال العقوبة بحقّهم، وعمل كابوتي على الاستعانة بتقنيات سردية غاية في الابتكار والبراعة بحيث تكون الدهشة والمتعة والإثارة وغير ذلك من عوامل التشويق حاضرة بقوة، بما يجعل القارئ متورطاً مع أحداث الرواية وشخوصها من الضحايا والمجرمين، وذلك هو سر النجاح الكبير الذي وجده العمل، وجعل منه مصدر إلهام للكثير من القرّاء وصناع السينما.
أفلام
تعامل النقاد وعشاق أدب الجريمة مع الرواية كحدث خاص ومختلف، فكان أن تم تناولها في كثير من القراءات النقدية، واهتمّ بها كتاب السيناريو والسينمائيون بشكل أكثر خصوصية، خاصةً أن للكاتب العديد من المؤلفات السابقة التي تم اقتباسها في صناعة الأفلام، غير أن «بدم بارد»، كان لها حظ أوفر في ذلك الاهتمام، بل إن حياة كابوتي نفسها قد تحولت إلى قصة قام بتأليفها كاتب السير الأمريكي الشهير جيرالد كلارك، والتي بدورها تحولت إلى فيلم بعنوان Capote، حيث لعب فيه الممثّل فيليب سيمور هوفمان دور كابوتي، وفاز عن دوره هذا بجائزة الأوسكار عام 2005.- فلسفة
لم تكن لحظة التقاء أدب الرواية بعالم السينما هي اللحظة الوحيدة التي جمعت «بدم بارد»، بالفنون والمعارف الأخرى، حيث شكّلت الفلسفة حضوراً كبيراً واستثنائياً في تناول هذا العمل الروائي المختلف، إذ إن اختلافه ليس مجانياً بل نابعاً من كون أن الكثير من أدب الجريمة لم يتم التعامل معه بصورة عميقة في الكتابات النقدية، باعتبار أن معظم روايات ذلك الأدب ترجو الإثارة وتحقيق أعلى المبيعات، لأنه أدب يجد اهتماماً من عامة الناس خاصةً في هذا العصر المضطرب والمتشظي، إلا أن اختلاف «بدم بارد»، جاء من كونها قد حملت الكثير من الرؤى والمفاهيم العميقة حول طبيعة العنف والشر والحياة والوجود، وهذا المنحى الفلسفي يُشكل في العصر الحديث حضوراً كبيراً في مؤلفات وكتابات ومقولات العديد من الفلاسفة الذين عملوا على تفكيك وتحليل طبيعة النفس البشرية، وبصورة خاصة تناول مفهوم الشر وكيف ينشأ، وهذا ما حاولت الرواية أن تفعله من خلال الرؤية المغايرة لكابوتي، إلا أن ذلك المنحى الفلسفي في العمل لم يكن ثقيلاً، وعمل المؤلف على تمريره بأدوات وتقنيات الإبداع الروائي، غير أن سر خلود الرواية يكمن في إثارتها للأسئلة حول المفاهيم الوجودية والحياتية المختلفة، وانفتاحها على عالم الإنسان ذلك المجهول.
وإلى جانب حشد الرواية بالرؤى الفكرية، والغوص في سلوكيات البشر، وعوامل المتعة والإثارة، كان العامل الحاسم في نجاحها هو الرغبة الكبيرة لدى كابوتي في أن يصنع عملاً مختلفاً من خلال تأليف واقعي بحت، مع مراعاة التكنيك الروائي، وقبل نشره في كتاب ظهر العمل عبر حلقات في صحيفة «النيو يوركر»، ووجد متابعة كبيرة من قبل القراء.
- استهلال ساحر
الرواية تميزت كذلك بتلك البداية الساحرة والمغرية بالمواصلة في القراءة دون توقف، وذلك من خلال قوة الوصف في السرد، حيث صنع كابوتي مشهداً مؤثراً وقوياً عبر ذلك الاستهلال الذي وضع من خلاله المتلقي في قلب المكان وهيأه لوقوع الأحداث، حيث نقرأ في وصف القرية التي شهدت تلك الوقائع والجرائم الغامضة: «تقع قرية هولكومب على سهول القمح العالية في غرب كنساس، في منطقة معزولة على بُعد حوالي سبعين ميلاً من حدود (كولورادو)، بسماء زرقاء صلبة وهواء صحراوي نقي، جو أقرب إلى أقصى الغرب منه إلى الغرب الأوسط. اللهجة المحلية مشوبة بلحن بري؛ خنة المزارعين المأجورين، حيث يرتدي الكثير من الرجال سراويل ضيقة الأطراف، وقبعات (ستيتسون)، وأحذية عالية الكعب ذات رأس مدبّب. الأرض منبسطة، والمشاهد كثيفة إلى حد فظيع؛ خيول، وقطعان من الماشية، ورهط من مزارعي القمح البيض ينتصبون برشاقة كالمعابد الإغريقيّة، ويبدون للمتجوّل من بعيد قبل أن يصل إليهم!»، بذلك الهدوء قام كابوتي بوصف القرية التي كانت على موعد مع العاصفة.
اقتباسات
طالما حظي هذا العمل السردي الماتع بلغته الباذخة، وتميز بمفرداته وتشبيهاته المعبرة، بالكثير من توظيف مقولاته ومقاطعه، ومن تلك الاقتباسات التي وجدت حظاً كبيراً من التداول:
- هل لأن امرأة تحبك، عليك أن ترتبط بها؟
- أشعر بصدق، أنه لا يحق لأحد منا أن يلوم أحداً على أي شيء عملناه في حياتنا الشخصية.
- من خلال التفكير في ما جرى، كان ضياعاً كبيراً. لكننا لا نملك السيطرة على نقاط ضعفنا البشرية.
- نها لعنة الدم الغجري فيهم؛ فلا يعرفون سبيلاً للراحة. سيمضون بعيداً لو كانت سبلهم مستقيمة؛ لأنهم أقوياء وشجعان وصادقون.
- إن الحياة ليست لعبة كرة سلة طويلة الأمد.
- الانفجارات الغامضة أوقدت نيران الشك في قلوب القرويين حتى بات الجيران ينظرون إلى جيرانهم بطريقة غريبة رغم عمر الجيرة الطويل.
- إخوتنا في الإنسانية، يا من تعيشون بعدنا لا تجعلوا قلوبكم قاسية علينا إنكم إذا شملتمونا نحن البائسين بشفقتكم فسرعان ما يشملكم الله برحمته.
