عادي
قراءات

«مذكرات العمى»..برقيات مرسلة من النور

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
كاندنسكي

القاهرة: «الخليج»
في الأول من يونيو/ حزيران من عام 1983 يكتب جون هال في كتابه «مذكرات العمى.. رحلة عبر الظلام» (ترجمه إلى العربية د. شريف بقنة؟): «كم من الوقت عليك أن تصبح أعمى، قبل أن تفقد أحلامك ألوانها؟ هل تظل تحلم بالصور إلى الأبد؟ سجلت كفيفاً منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، في الأشهر القليلة الماضية، خبا الأثر الأخير للضوء من عيني، الآن أنا أعمى تماماً، لا أستطيع التمييز بين النهار والليل، أستطيع التحديق في الشمس، من دون أن أرى بصيص نور منها».

«لماذا نقرأ؟ أحياناً أنشد الراحة، العزاء، الإلهاء، أو الترفيه، في أوقات أخرى أسعى إلى تعلم أشياء جديدة، ووضع نفسي في منزلة الآخر، ربما وخاصة عندما أقرأ المذكرات، أريد أن أعرف وأستوعب الإنسان الآخر باستدعاء عالمه، في حالات نادرة يجتمع كل ما سبق وأشعر بارتياح عميق، ليس فقط لأني قضيت وقت قراءة جيداً، وإنما لشعوري أنني تغيرت بطريقة أو أخرى، وأن ما تعلمته ألقى ضوءاً على رحلتي خلال هذه الحياة العجيبة».

هكذا تقول الروائية كاثي رينتزنبرينك في تقديمها للكتاب، موضحة أن «مذكرات العمى» يستوفي كل هذه الرغبات القرائية، وهو نموذج جميل لما يمكن أن تكون عليه نوعية الكتب، بشكل مكثف، وفي ذات اللحظة تحمل معنى كلياً. كان جون هال أكاديمياً ولاهوتياً، مسجلاً ككفيف في عام 1980 تقريباً في نفس وقت ولادة طفله الثاني، في البداية كان منشغلاً بحل المشكلة واستكشافها وكل ما صاحب ذلك من مفاجأة وتعلم لكيفية العيش والعمل.

لم تمضِ سوى ثلاث سنوات حتى تلاشى الضوء الأخير من عينيه، وسافر بعيداً إلى ما يسميه «العمى العميق» وبدأ بتسجيل ملاحظات حول حياته على الكاسيت، والتي شكلت مادة هذا الكتاب، راسماً خط التدرج من كونه «الشخص المبصر الذي لا يمكنه أن يرى إلى أن أصبح الشخص الأعمى».

إنها رحلة عملية ومجازية، يمكن لهال التنقل بين المنزل والعمل بنجاح كبير باستخدام عكازة، وفي معظم الأحيان تكون المخاطر التي يواجهها مرتبطة بالبشر أكثر من الأشياء، يلاحظ كم هو صعب على الشخص المبصر استيعاب أن العصا مجرد أداة لتوسيع مجال إحساسه بالأشياء المحيطة، وليست شيئاً يريد أن يتكئ عليه، إنها عصا الرؤية، وليست عصا المشي، غير أن الراغبين في المساعدة والطموحين حوله يلتقطونها ويؤشرون له بها، ولا يلتقطون فكرة أنه لا يمكنه رؤية ما يفعلون.

يوضح الكتاب أن ليس كل شخص حسن النية، ثمة رجال مجهولون يتهكمون في الشارع، ويصرخون منبهين عن سيارات وهمية أو آخرون يتهمونه بأنه محتال، ما يشعر بالصدمة أكثر من هذه القسوة العشوائية، هو عندما يغيظه معارفه ويختبرون مدى قدرته في التعرف إلى أصواتهم، عوضاً عن تقديم أنفسهم على الطريقة الملائمة.

يعتمد الاتصال البشري على مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن بالطبع لا يزال هال يرغب بأن يرى بأكمل صورة، على الرغم من أنه لم يعد يرى، إنه يخبرنا عن كونه أصبح معاقاً، وبشعوره فقدان جزء من إنسانيته، كثيراً ما يجد نفسه في موقف الطفل، الذي يتجاهله الناس، ويسألون غيره (زوجته) عمّا يريد أن يفعله.

كيف تكون المشاعر عندما لا يمكن رؤية ما تفعله الأيام في ملامح المرء بعد الآن أو ملامح محبيه؟ يشعر هال بالكمد عندما لا يستطيع أن يستحضر صورة زوجته أو ولده الأكبر في مخيلته، هو الذي لم يرَ أطفاله الصغار من قبل، يستوعب هال وهو محاط بالأطفال من حوله أنه لا يعرف ما إذا كان الطفل يتحرك في حضنه بسعادة، ولا يعرف كيف يمكن أن يسأل عن ذلك.

توفي جون هال في عام 2015 وكتبت أرملته مارلين خاتمة لهذه الطبعة من الكتاب، هناك حكمة في كل صفحة من هذا الاستنطاق الذاتي المشغول بدقة، والذي تركه وراءه، هذه البرقيات المرسلة من الظلام، ولكن أيضاً من النور، ستبقى لفترة من الزمن، يا لها من هدية للبشرية جمعاء، أن يكتب شخص واحد بصراحة ووضوح عن الطريقة التي يواجه بها المكفوفون عالمهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yte8k5n5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"