عادي

موريس بلانشو: الشعر مملكة الفاجعة

22:28 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة – «الخليج»

عاش المفكر الفرنسي موريس بلانشو (1907 – 2003) تجربة قاسية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إثر موت معظم أصدقائه بدءاً من كامو عام 1960 وانتهاء بسيلان سنة 1970 وتجلى ذلك في أحد كتبه الذي مثل تحية عميقة لروح جورج باتاي ولصداقة الكتابة اللانهائية، ولم تكن عملية الاستباق نحو هذه الكتابة ذريعة لتمثيل العزلة وتأييد الحوار، بل كانت إيذاناً بالتعب الروحي والجسدي، وتمثل هذا التعب في إحدى قصصه، بشخصياتها وأقوالها في قالب شذري كي تلتقي في منطقة التقرب والنسيان، حيث التلاشي سيد الكلام في الصمت، وستكون الثمانينات فترة نضج الكتابة الشذرية مع «كتابة الفاجعة» (ترجمة عز الدين الشنتوف).

يقول الشنتوف: لم يُعْنَ بلانشو بكتبه مثلما عني بهذا الكتاب، مخافة عدم إتمامه أو التوقف عن متابعة الكتابة الشذرية، في الظروف السياسية والثقافية والنفسية التي عاشها، والسبب في ذلك أنه رأى فيه كتابه الأخير الذي استغرق ست سنوات (1974 – 1980) بحثاً عن مفهوم الكتاب، من خلال ممارسة الشكل المتخيل للكتابة، وبما أن الشكل الذي اختاره لممارسته ظل لغزاً لدى أغلب الدارسين والقراء، فمن الطبيعي أن تختلف التأويلات في تجنيسه وتحديد سماته، وهذا هو السبب الذي جر «كتابة الفاجعة» إلى مناطق فلسفية وتاريخية ولغوية ودينية.

والأكيد أن العدد الهائل من الدراسات التي تعاملت مع الكتاب، دليل على أهميته في فرنسا والعالم، لأنه خلق أزمة العلاقة بين الكتابة والقراءة، تجلت في السؤال المشترك بين كل هذه المقاربات: من أين نبدأ قراءة الكتاب، وكيف نواجه صعوبة الفهم وتدارك الفجوات التي تتركها الشذرات؟ وربما كانت هذه الفجوات وكثرة علامات الترقيم وتداخلها هي صيغة تلك الأزمة، في هذا العمل.

حوار معرفي

استعمل بلانشو كلمة «الفاجعة» في أحد مقالاته وعنى بها تغير النجم وخروجه عن مداره أو ما دعاه «الخروج من الفضاء التاريخي» ويتضمن العمى ذاته الذي يحمله على القطيعة التاريخية، وستظل حاضرة في الشعر بعد الحرب العالمية الثانية ليصبح «الشعر مملكة الفاجعة» كما صرح في كتابه هذا، ويبدو أن مبدأ الحوار المعرفي الذي يمثل أهم سمة في الكتاب، يتحول من خطاب إلى آخر: من الأدب إلى السياسة ومن التاريخ إلى علم الأديان المقارن، ليجعل الفاجعة مطلق أي خطاب من خلال تأويل معطياته ومعالمه أو نقدها.

يمثل هذا الكتاب كتابة التعدد كما تصورها بلانشو، ويعني ذلك أنها مشروع وأفق لا بداية له ولا نهاية، وتسعى إلى ممارسة الغياب، وتدمير المعنى، إنه كتاب يجمع بين الإبداع والتنظير، سواء كان فكراً يكتب شعراً، أم شعراً يكتب فكراً، كما أنه يعد كتابة تتداخل فيها الفلسفة واللاهوت وعلم النفس والتاريخ والعلوم المعرفية إلى حد الاشتباه، ويغير الكتاب مفهومي الإحالة والشاهد في مستويات عديدة، ومن بينها استشهاده بنصوص لا يحيل إلى أصحابها، ويكتفي بوضعها بين علامتي تنصيص أو يضمها إلى عبارته كأنها منسوبة إلى المؤلف.

ينحدر موريس بلانشو من أسرة فرنسية أرستقراطية كاثوليكية، توارثت ضيعات فلاحية كبيرة، بضواحي فرنسا، وهو الفضاء الذي ارتبط به وجدانياً، وجعل منه أسطورة في أغلب رواياته وقصصه، وتعمق هذا الارتباط بالآلام التي عاناها ولازمته طوال حياته، جراء خطأ طبي أثناء عملية جراحية، ولم تخل أعماله من هذه الآثار الجسدية والنفسية التي بحث لها عن مثيلاتها في الأعمال الأدبية العالمية، ولم يكن وصفه للخطأ ذا أهمية بقدر اهتمامه بهاجس الموت الوشيك بصفته تجربة داخلية مثلت صلته بالجسد والعالم، وقد أثار أصدقاؤه أثر المرض على طباعه ومواقفه، ولم يتأففوا من غموضه وانعزاله المتكرر.

اهتم بلانشو في نهاية العشرينات بتيار القطيعة مع التقاليد العقلانية والروحية التي شهدها الدرس الأكاديمي في باريس، وفي مطلع الثلاثينات تعاون مع صحف ومجلات تنتمي إلى اليمين المتطرف في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي كانت تنذر بالحرب، ويرى كثير من الباحثين أن انسحاب بلانشو من المشهد السياسي كان تعبيراً عن تغير موقفه، لكن انتقاله إلى اليسار المتطرف وعدم نقده لسياسة فيشي، ومناصرته للثورات الطلابية، خلق ارتباكاً كبيراً في التعاطي مع مواقفه، ولأنه لم يعقب على ذلك اشتغلت آلة إعادة قراءة فكره في أمريكا مع بداية التسعينات، ومع اتهامه بمعاداة السامية، ومن القضايا التي أثارت غضب كثيرين أن بلانشو وقف ضد حرب الجزائر سنة 1961 وضد التمييز العنصري سنة 1986 وندد بالتدخل الأمريكي في العراق سنة 2002.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mryb9eex

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"