عادي
صدر في الشارقة

«الخريف».. المستقبل يحاور الماضي

15:26 مساء
قراءة 5 دقائق
آلي سميث

الشارقة: علاء الدين محمود

تفاصيل ممتعة حملتها رواية «الخريف»، للكاتبة الاسكتلندية آلي سميث، فالعمل عمل على التقاط لحظات ومفارقات الحياة والواقع اليومي بطريقة مدهشة، تسرب إلى نفس القارئ الحيرة والرغبة القوية في التأمل من أجل اكتشاف الوجود والمجتمع وطبائع النفس البشرية في تناقضاتها المستمرة، فالرواية شديدة الصلة بعوالم البشر الخفية والواضحة، حيث إن الإنسان هو لغز قائم بذاته في التصرفات والسلوكيات والدوافع والتعامل مع الآخرين، وقديماً قال أبو حيان التوحيدي «لقد أشكل الإنسان على الإنسان».

نشرت هذه الرواية عام 2016، في بريطانيا وهي الأولى من بين أربعة أعمال موسمية تحدثت فيها المؤلفة عن «حالة الأمة»، وتحمل جميع تلك الروايات أسماء فصول السنة، فهناك «الشتاء»، و«الربيع»، و«الصيف»، ولكل اسم دلالته القوية، من حيث الواقع والأحوال النفسية، حيث تتناول حكايات عن الشيخوخة والشباب والضعف والقوة، وقد وجد هذا العمل «رواية الخريف»، صدى كبيراً، فقد تأهلت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة مان بوكر، عام 2017، وتم اختيارها من قبل صحيفة «واشنطن بوست»، كواحدة من أفضل 10 كتب في سنة صدورها وضمتها نيويورك تايمز إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وتناولها النقاد كثيراً في بريطانيا وأوروبا.

*تقلبات

صدرت الرواية عربياً في طبعتها الأولى عام 2018، عن دار روايات في الشارقة، بترجمة ميلاد فايزة، وتقع في 226 صفحة من الحجم المتوسط، ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في هذا العمل أنه يرصد بقوة التحولات السياسية والاجتماعية في حقبة سياسية معينة، وأثر ذلك في الأفراد والجماعات، وتتعمق الرواية في مسألة التقلبات التي حدثت جراء تلك التحولات، برافعة التحليل والتفسير وطرح الكثير من الأسئلة، فلا شك أن العمل يحتشد بالرؤى الفكرية والفلسفية، والكثير من النقد السياسي، كما أن السرد يطلق العنان للتداعيات وحديث الذكريات والحوارات التي تكشف عن الكثير، خاصة ما يتعلق بالبشر ودواخلهم وأفكارهم ومشاعرهم. جمعت هذه الوليمة السردية الشهية بين جماليات السرد وتعدد تقنياته، كما يطل العمل بصورة بديعة على مشاهد متوارية في المجتمع البريطاني، مثل عوالم المجموعات الرافضة للاجئين والمهاجرين الأجانب، الذين باتوا بريطانيين.

*صدمة

تركز الرواية بصورة أساسية في أحداثها وعوالمها السردية على حدث سياسي كبير، فهي ترصد تلك الحالة التي ألمت بالجميع عام 2016 عندما خرجت بريطانيا للتو من الاتّحاد الأوروبيّ، وهو الحدث الذي قد يكون عادياً بالنسبة للآخرين، خاصة خارج أوروبا، لكن في الحقيقة كان لذلك الانفصال السياسي، تأثيره الكبير في البريطانيين بمختلف أوجه حياتهم، حيث أوقعهم في صدمة عاتية عاشها الجميع، أو كما تقول المؤلفة: «تأثرت بها الأمة كلها»، لقد عانى البريطانيون ألماً عميقاً، ويتابع العمل برصد حساس والتقاط رائع نتاج تلك الواقعة على البشر، وهنا تكمن براعة المؤلفة التي استطاعت أن تشكل صوراً ولوحات اجتماعية ورومانسية غاية في الروعة والجمال، بحيث إن القارئ يجد نفسه متورطاً مع أبطال العمل وحكاياتهم المختلفة، وحتى تلك القصص الهامشية في العمل، فالرواية هي عبارة عن بحيرة كبيرة تتغذى بواسطة عدد من الأنهار، لتشكل تلك العملية قوام أحداث العمل وعوالمه.

*قصة

يروي العمل التفاصيل المثيرة في حكاية دانيال كلارك، ذلك الرجل الكهل الذي يبلغ من العمر 101 عام، وهو صاحب تجربة حياتية ثرية ومختلفة، فهو مغنٍّ سابق، له الكثير من القصص والحكايات، لكنه الآن يرقد طريح الفراش في المستشفى، ويحلم بشكل مستمرّ، وتزوره بصورة منتظمة فتاة في الثانية والثلاثين من عمرها، تدعى إليزابيث ديماند، وهي الفتاة التي كانت جارته في صِغَرِها، وأنشأت معه صداقة متينة، وكانت شديدة الإعجاب به؛ حيث تأثّرت بالحوارات المتبادلة بينهما طوال فترات زيارتها له عن الفن والرّسم، ويعكس العمل تلك المفارقة العجيبة والمتمثلة في أحلام وطموحات وتطلعات بطل الرواية كلارك، في الوقت الذي يقترب فيه رويداً رويداً من حافة الموت، ويبدو أن المتعة كذلك حاضرة في التداعيات والحوارات بين الفتاة والرجل الكهل، حيث تستجمع إليزابيث ذكرياتها عن جذور صداقتها بكلارك، وهي لحظات من المتعة والحميمة في التفاصيل السردية لهذا العمل البديع، وهنا أيضاً تبرز مفارقة غريبة وعجيبة، فبينما يتحدث ذلك الكهل عن أحلامه للغد، تتحدث الفتاة عن الذكريات، عن الماضي، فهذا اللقاء بين العجوز والفتاة هو لقاء بين الماضي والمستقبل لكن بشكل معكوس، فالرجل المسن الذي من المفترض أنه هو الماضي، يمثل المستقبل، بينما الفتاة التي أمامها الحياة بطولها، تمثل ماضياً انتهى وتتمسك به بصورة عجيبة، وهنا يكمن جمال السرد من خلال التركيز على مثل هذه المفارقات.

*لعبة

الرواية بمنزلة لعبة، أو هكذا تعاملت معها المؤلفة، وجعلت من فصل الخريف مسرحاً وفضاء للأحداث، ولذلك دلالته، حيث إن ذلك الفصل يغري بالذكريات والتداعيات، ويثير في النفس لواعج الشوق والحنين، ويحرك الأسئلة، تتساقط فيه الأوراق لتجعل الأشجار عارية، وكأنها ترمز إلى أوراق عمر الإنسان، ليعقب ذلك الجفاف فصل مختلف في طبائعه وهو الشتاء الذي يغرق الأرض بالمطر وتنبت فيه الورود، فصل تساقط الأشجار يمر دائماً وسط أجواء الرومانسية والنوستالجيا، بالتالي فإن الاسم «الخريف»، له أهميته كعتبة نصية تدخل بشكل حاسم في قراءة الرواية، فهو يعبر عن النهايات، وتلك السلاسة في الأحاديث التي تخرج من فم الشخص الذي يواجه للموت، هي الأحاديث الأخيرة، تأتي دائماً بصفاء ذهن شديد، وعامرة بالحقيقة والحب للناس، فالكاتبة تتناول في هذا العمل علاقات متنافرة تشكل أساس الحياة، كعلاقة الحيّ بالميت، والحاضر بالماضي، والفن بالحياة.

*تقنيات

ولئن كان العنوان ودلالاته نقطة قوية في الرواية، فإن العمل كذلك حفل بالعديد من التقنيات البارعة، مثل الانتقالات في الزمن وبناء الشخصيات وقوة الوصف، وكذلك توظيف الكوميديا والسخرية اللاذعة، والمقدرة على تخفيف الحمولة الأيديولوجية من خلال الابتكار في استخدام تقنيات السرد، خاصة التداعيات والحوارات، وقد لقبت المؤلفة بأبرز روائيّة بريطانيّة معاصرة، لبراعتها الشديدة في رصد اليومي والمعيش وتحويله إلى عمل إبداعي، حيث تلقي الرواية ضوءاً كثيفاً على اللحظة المعاصرة التي نعيشها الآن بكل ما فيها من تناقضات وصراع بين المرء وذاته والآخر، وبين الواقع والمتخيل، وبين الفرد والجماعة، فالصراع هو الثيمة الأساسية في الرواية، لكنها لا تكشف عن نفسها بشكل سافر، بل يكتشفها القارئ وهو يطالع الأحداث، ويتأمل المعاني المختبئة في تفاصيل السرد، غير أن العلامة الفارقة في الرواية هي توظيف اللغة الشاعرية بشكل خلاق ينتج الصور والمشهديات.

*اقتباسات

«تخيل أن الموت يصفي الإنسان، يزيل الأشياء المتعفنة، حتى يصبح كل شيء خفيفاً كغيمة».

«هذا ما يجب أن تعرفه عن الأشياء، إنها تتداعى، كما تفعل عادة وكما ستفعل دائماً».

«شكراً لدعوتي يا موت، اسمح لي من فضلك، يجب أن أعود إلى الحياة».

«لا أرى الشجرة فقط، بل الساق التي تشد تلك الورقة إلى تلك الشجرة».

«كم من الأكوان تستطيع أن تحمل في يدك، في يد مملوءة بالرمل».

«كل أولئك الأشباح الجوعى يأكلون قلوب الناس وعقولهم».

«إن ازدياد فترة طول النوم، تحدث عندما يقترب الإنسان من الموت».

«وداعاً أيها العالم القاسي، أنا ذاهبة لألتحق بالسيرك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2es87b4h

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"