عادي
صدر في الشارقة

«الفناء الأسمنتي»... العيش في قلاع العزلة

14:53 مساء
قراءة 5 دقائق
إيان مكيوان - الرواية
  • الناشر: دار روايات
الشارقة: علاء الدين محمود

تحتشد رواية «الفناء الأسمنتي»، للكاتب البريطاني إيان مكيوان، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2018، ترجمة أسامة إسبر، بالأسئلة والكثير من التأمل حول المصائر وحقائق الوجود، وتتعمق الرواية في النفس البشرية وتقلباتها، وتتناول بصورة أساسية مسألة العزلة والفردانية والبؤس الناتج عن فقدان السند والعائل ومواجهة الحياة في وقت باكر في ظل اليتم، والنتائج المترتبة عن ذلك الأمر، وكذلك تتحدث الرواية عن التمرد ومحاولة الأطفال إعادة ترتيب البيت بطريقة غير تلك السائدة حيث تسود سلطة الأب أو الكبار.

* رؤى

الرواية محتشدة بالرؤى الفكرية والفلسفية، حيث تغوص عميقاً في دهاليز النفس البشرية، وهناك حمولة ثقيلة في السرد حاول المؤلف أن يمررها ويتعامل معها عبر تقنيات مختلفة مثل توظيف السخرية والمفارقة والنكتة في بعض الأحيان، إلى جانب التداعيات وحديث الذكريات، والصوت الأبرز في العمل هو أحاديث الابن المراهق جاك الذي هو بمثابة الراوي الذي يضعنا في قلب السرد وتفاصيله المختلفة.

استهلال بديع في الرواية يضع القارئ في قلب الحكاية منذ البداية، حيث يروي جاك خلفية قصة الأسرة، منذ وفاة الأب، في ذلك اليوم الذي جاءت فيه سيارة إسعاف لتحمل الوالد بعيداً عنهم، ثم مرض الأم لأشهر إلى لحظة موتها وقرارهم بأن يدفنوها في فناء البيت وأن يصنعوا لها قبراً من الأسمنت الذي أحضره الوالد، ومن هنا تتضح تسمية الرواية «الفناء الأسمنتي»، لقد كان همّ الوالد أن يبني فناء البيت أكثر من رعاية الأبناء، لكنه لم يعش حتى يكمل مهمته.

يتبنّى السرد تقنية التداعي المباشر بلسان جاك، الذي يسرد ذكرياته، حيث كان يعيش في كنف والديه في ظل أسرة صغيرة إلى جانب إخوته الثلاثة من الجنسين، جولي الفتاة الأكبر، وهي مثل جاك في طور المراهقة، وسو وتوم وهما في طور الطفولة، يحاول جاك أن يفرض وجوده وأن يصنع علاقة جديدة تحكم المنزل، ولكنه يفشل، ولم تتوفر الحرية المنشودة للصغار إلا بعد وفاة الأب والأم.

* انقلاب

وجاء في الرواية: «عندما حاول جاك (14 عامًا) أن يقلب نظام البيت، فشل فشلًا ذريعًا. لقد أعدّ نُكتةً بالتواطؤ مع أخته كي يتندّر على والدهما أثناء تناول الطعام، أراد أن يقلّب الأدوار ولو لحظة. لكنه فشل. لم يضحك أحد. وليست هذه هي العلاقة الوحيدة غير المتوازنة بين جاك ومُحيطه، بل إنّه يقف على مسافةٍ من أمّه أيضًا وإخوته، والمدرسة، والحيّ، فبات يشعر أنّه وحيد ومُهمَل. يموت الأب أوّلًا، ثم الأم، فيغدو الأطفال الأربعة وحدهم في منزلٍ واسع شبيه بالقِلاع القديمة، ينتصب وحيدًا في حَيٍّ هُدمَت أغلب منازله لصالح بناء أبراج سكنيّة وشَقّ شوارع جديدة. متحرّرين من المراقبة وأوامر الأمْر والنّهي، يستطيعون القيام بما يشاؤون، طالما أبقوا على السّرّ المخبّأ في المنزل سرًّا: لقد مزجوا كميّة كبيرة من الأسمنت الذي جلبه والدهم لإصلاح الحديقة، ودفنوا به أمّهم في القبو»، يوضح هذا المقطع عوالم الرواية المعقدة من نضال الصغار من أجل الحرية إلى نيلها بوفاة الأب والأم «السلطة»، ولكن هل نالوا السعادة؟ الكتاب يجيب عن ذلك السؤال من خلال تتبع مسيرة جاك وإخوته في الحياة أو في ذلك السجن الكبير، «البيت»، ويحاول المؤلف رغم الألم الكبير في العمل السردي والانقلابات النفسية المرهقة، أن يصنع قصة ممتعة، هي حكاية الطفولة والمراهقة، ويعمل من خلال الكشف عن اختلالات التربية الوصول إلى المسكوت عنه.

* سلطة البيت

يجد الصغار الأربعة أنفسهم، بعد وفاة الأم، أمام سؤال ماذا سنفعل الآن؟ لقد خافوا من أن يكون مصيرهم أن يوضعوا تحت الرعاية والوصاية، أو ينقلوا في دار للأيتام، وينزع منهم البيت الذي تربّوا بين جنباته، هذا البيت الذي يعني الكثير بالنسبة لمراهق وإخوته الأطفال الصغار، هو أكثر من كونه مجرد جدران، بل عالمهم الخاص، تسرب إليهم الخوف والقلق من أن ينتزعوا من حضن المنزل، أو أن يتفرقوا بين عوائل مختلفة، لقد قاموا بدفن جثة أمهم داخل المنزل حتى تكون قريبة منهم، كانوا يتصايحون ببراءة الأطفال: «لن ندعها ترحل... لن ندعها ترحل»، لقد قرروا العيش معاً، وكان لكل منهم هوايته، فقد كانت الفتاة الصغيرة سو، تسجل اليوميات وتخاطب أمها كأنها لم تغب وتحكي لها الحكايات التي حدثت بعد وفاتها، ومن يوميات الأخت سو، نقرأ: «التاسع من آب.. مر على وفاتك 19 يوماً. لم يذكرك أحد اليوم... كان جاك في مزاج مروّع. فقد آلم توم على الدرج لأنه أصدر ضجة. خدشه خدشاً كبيراً في رأسه فنزف دماء غزيرة. على الغداء أعددنا علبتي حساء. لم يتحدث جاك مع أحد. تحدثت جولي عن رجلها الذي يدعى ديريك... لم يغير جاك ثيابه منذ وفاتك. لا يغسل يديه أو أي شيء، وتصدر عنه رائحة كريهة».

* حكاية

ويركز السرد بصورة أساسية على حكاية جاك، الابن الذي بدأ يودع حياة الطفولة ويدخل في عالم المراهقة المختلف، حيث التغيرات الجسدية والنفسية التي كانت بالنسبة له بمثابة لغز غامض، تلك هي العوالم التي قد يتناساها الكبار، ويغفلون عن حساسيتها، لقد خاض جاك تلك المرحلة الصعبة دون مساعدة من أحد، يجب عليه القفز فوق كل ذلك، لكن طبيعته الهشة لا تتحمل، لذا يظل صاحبها مهموماً، مكتفياً بذاته المزدحمة بالكثير من الهواجس والأحلام المكبوتة في تلك الآونة، هذا جانب مهم في الرواية حيث يتناول مسألة حساسة وهي العلاقة بين المراهقين، خاصة جاك وجولي، وما ينتابهما من مشاعر غامضة نتاج المتغيران الجسدية والنفسية.

* أساليب

تتميز الرواية بأسلوب السهل الممتنع، حيث عمل المؤلف على وضع تصوراته وفلسفته في السرد بطريقة لا تجعل القارئ ينفر أو يشعر بالملل، وذلك يؤكد براعة الكاتب المولود عام 1948، وخبرته، فهو روائي ومسرحي، ومنتج أفلام، وكاتب سيناريو، وهو عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، والجمعية الملكية للأدب، وصلت أعماله: «الارتياح للغرباء»، و«كفارة» و«كلاب سوداء»، إلى القوائم القصيرة لجائزة البوكر، وفاز بها عام 1988 عن روايته «أمستردام»، كما حازت كتب أخرى له جوائز عدة، وأدرجته صحيفة التايمز في قائمة أفضل 40 روائياً بريطانيّاً منذ عام 1945، وحصد الترتيب ال19 في قائمة الديلي تيليغراف لأقوى 100 شخصية في الأوساط البريطانية.

* اقتباسات

«لم أقتل أبي، لكني شعرت أحياناً أني ساعدته على شق طريقه إلى عالم الموت».

«إذا أحبني الناس بالفعل، فإنهم سيقبلونني كما أنا».

«يبدو منزلنا مثل وجه مستغرق لأحد ما، يحاول جاهداً أن يتذكر شيئاً».

«أي إحساس ضئيل سيكون كافياً كي يعيدني من حلمي إلى العالم المحسوس».

«لقد كنا متآمرين على العائلة وكل الناس الذين نعرفهم».

«لقد ماتت أمي، أدركت خلال لحظة حقيقة موتها، صار بكائي جافّاً وقاسياً».

«كم تمنيت أن لو أني أستطيع ترك نفسي على سجيتها».

«حين ماتت أمُّنا انتابني شعور بالتحرر والمغامرة بالكاد تجرأت بالاعتراف به لنفسي».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3bd6w34x

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"